الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
مقهى القصر الذي يعرفه جيداً .. وجهاً زائراً، مرسوماً عليه كل وجوه المعذبين، يحمل على كتفيه، في قلبه في عينه، حكايا الأيادي الصعبة المتعبة، والشمس والرياح والمطر وآلام من لا صوت لهم … ورحلة الثلاثين عاماً عبر كفاحه الصامت من أجل خلق فن إنساني كوني ،يحمل آفاق العصر، وطموحات إنسانه ورغبات المحتاجين …
كان الحوار مع لؤي كيالي صعباً … بعيداً … يحمل كل زخم الحياة … أردت أن أعرف ماضيه وحاضره …فرحه وتمزقه …أعرف عن آلامه ورغباته … عن فنه، كيف يفكر ؟ كيف يرسم؟ واحد من أكثر فنانينا العرب شهرة وشعبية وأصالة
وكان هذا الحوار:
ماذا تمثل بالنسبة إليك المرحلة الفنية التي سبقت سفرك إلى روما ..؟ وبصورة أوضح ما هي المواضيع التي كانت تثيرك وكذلك الفنانون الذين تأثرت بهم ..؟ عن ذكريات الدراسة في ثانوية المأمون … عن طفولتك …؟
ليس سهلاً على الإنسان أن يعود بذاكرته إلى ثلاثين سنة خلت ليقوم مواقفه الحياتية.
كانت بدايتي الفنية في سن الحادية عشرة برسم تخطيط سريع لجدي على اللوح الحجري الذي كنت أستخدمه في المدرسة الابتدائية، وكان الشبه واضحاً بين ما خططت وبين جدي وشجعني بعض أفراد من عائلتي وبدأت بشراء بعض الصور الملونة لكبار الفنانين أمثال ليوناردو دافنشي كلوحة العذراء والطفلين، وبدأت بنقل هذه الصور على القماش وبالألوان الزيتية دون أي خبرة سابقة حتى أنني كنت أرسم على القماش دون تحضير بالمواد الأولية اللازمة .. فجاءت أعمالي تقليداً هجيناً وأعمى .
ودخلت المدرسة الإعدادية وبدأت بالرسم عن الواقع وكانت المواضيع غالباً تمثل طبيعة صامتة _ فخارة مثلاً _ ومنفذة بالقلم الرصاص أو بالفحم وبتوجيه من الأستاذ غالب سالم وكنت أحصل على علامات جيدة ومن ثم بدأت بدراسة تاريخ الفن وبمعرفة أن الرسم على القماش أو على قطعة المازونيت يجب أن تبدأ بتحضير هذه القطعة تحضيراً أولياً وضرورياً .. واستمريت برسم بعض اللوحات المنقولة، وكنت أثناءها معجباً ببعض الممثلين والممثلات والأساتذة فقمت بتكبير رسومهم وصورهم وكذلك كبرت بعض صور الأقرباء والأصدقاء والمعارف، وهذا أفادني في السنين التي تلت ذلك وأضيف جملة معترضة هي أنني إلى جانب ممارسة الرسم كهواية فإنني كنت أمارس ألعاباً رياضية ككرة القدم والسلة والطائرة والطاولة والسباحة.
هذا إلى جانب أنني في بداياتي رسمت بعض المواضيع الملتزمة المأخوذة عن الواقع كلوحة-دليل الأعمى- وتمثل شيخاً ضريراً يقوده طفل من يده، وكلوحة الشحادة وأحياناً أعمد إلى الخيال فرسمت لوحة-الزوادة-وتمثل عاملاً بائساً يحمل عصا عليها زوادته من الطعام.
ولكن الصياغة أي الشكل (الخط واللون والتكوين والكتلة) حسب ماأذكر كان ضعيفاً.
ثم انتقلت إلى مرحلة هي رسم بعض اللوحات لنساء جميلات جداً مؤلفة من مقاطع مأخوذة من هنا وهناك وكانت الصياغة شبيهة بالصور الفوتوغرافية الملونة.
وتقدمت في أواخر عام 1956 إلى فحص البعثة التي أعدتها وزارة التربية» المعارف سابقا» لإيفاد طلاب يدرسون على حسابها في أوروبا.. وكان الفحص يتألف من رسم لوحة طبيعية صامتة بالألوان ومأخوذة عن الواقع ومن ثم رسم امرأة عجوز من الخيال منفذة بالقلم الرصاص وسؤال في الثقافة الفنية وكانت النتيجة أنني الناجح الأول والوحيد.
من هذه اللمحة الموجزة تدرك بأن المرحلة الفنية التي سبقت سفري إلى روما للدراسة كانت مرحلة غير ناضجة وغير واضحة المعالم.. هذا وأنني لم أتأثر بأي فنان عربي أو غربي.
كل فنان يمر بمرحلة البحث عن أسلوب.. ماهي المراحل الفنية التي مررت بها من ناحيتي الشكل والمضمون..؟ وهل تعتقد بأنك ستبقى ملتزماً بمبدأ التطوير ضمن الواقعية التعبيرية أم هناك آفاق أكثر تحرراً تستلقي داخلك.. وتنتظر الشرارة..؟؟.
كل فنان يمر بمرحلة البحث عن أسلوب.. برأيي هذا كلام غير صحيح وإن صح لدى البعض من الفنانين فلا يمكن تعميمه، والأمثلة من تاريخ الفن كثيرة واضحة فالفنان البدائي والفنان اليوناني القديم وكثير من الفنانين الايطاليين كـ جوتو وبييرو ديلا فرانشيسكا ومانيه ومونيه الفرنسيين لم يمروا بمرحلة البحث عن أسلوب، في نتاجهم كانت أساليب ومدارس ينهل منها الكثير من الفنانين.. ولكن مفهوم الفن في القرن العشرين قد اختلف نتيجة أسباب كثيرة أهمها قول النقاد بأن الفنان يجب أن يتطور ويجب أن يبحث ولهذا جد بعض الفنانين في مراحل البحث عن أسلوب متميز حتى وصل بعضهم إلى حد الصرعة في الفن كـ جاكسون بولك وفونتانا الأول من الولايات المتحدة الأميركية والثاني من إيطاليا.
إن نتاجي الفني ابتداء من عام 1959 يظل يدور ضمن مذهب واحد يتراوح بين الواقعية والتعبيرية وإن اختلف في بعض الصياغات الشكلية كالتأكيد على الخط او إزالة تأثيره المباشر في تحديد الشكل أو إدخال التجريد في خلفية اللوحة كعنصر متمم للتأكيد على جمالية العمل أو إضفاء مسحة سريالية على بعض الأعمال وهذه المسحة أو النغمة السريالية لم تكن مقصودة.
أما عن أنني سأبقى ملتزماً بمبدأ التطوير ضمن الواقعية التعبيرية أم لا فهذا ماسيوضحه نتاجي في الغد.
في أواخر عام 1974 وقبل سفرك الأخير إلى روما.. مررت بمرحلة أشبه ماتكون.. بغليان البركان.. أصبحت ترسم بعنف وبقوة لاتعرف الكلل.. تجرب تكتشف.. وتطرق أبواب الفن المغلقة.. كانت تجارب رائعة، مدهشة.. وقلت حينئذ أنك تبحث عن جديد..ولكنك رجعت إلى أسلوبك المعروف..باستثناء تركك للخشب المضغوط.. بماذا تفسر ذلك؟؟.
خلال هذه المرحلة- القصيرة جداً- من الغليان البركاني كما اسميتها، لم تتوضح معالمها ونتائجها إلا بالاستفادة من التجريد وإدخاله كعنصر متمم في أرضية اللوحة وتمثلت هذه التجربة في بعض اللوحات التي طرحت من خلالها موضوعاً واحداً هو الأزهار.. أما بماذا أفسر ذلك فهذا أمر طبيعي نتيجة للرغبة في البحث والتجديد ولكنها كانت طفرة.. فالتجريدية لا تتناسب مع الشكل الإنساني في لوحاتي.
ألا ترى أنك تقترب من فان كوخ في مواضيعك (الكادحين – الطبيعة – الزهور- وأخيراً القوارب) وتقترب منه حياتياً وخاصة في فترة حياتك التي سبقت عام ١٩٧٣..؟ لأوضح أكثر: تعاطف فان كوخ مع بروغل وميليه.. حتى أنه ذكر صراحة في رسائله إلى أخيه ثيو.. عن نقله لوحات ميليه وكذلك أنت تتعاطف معهما بقدر تعاطفك مع موديلياني وميكيل انجلو بماذا تفسر تعاطفك معهم؟
صحيح أنني اقترب من فان كوخ لكنني أعود لأبتعد عنه.. نقترب من الموضوع أحياناً- كالكادحين والزهور- لكننا نختلف أحياناً في المضمون ودوماً في الشكل إلا في بدايته أغوص في الأعماق – في بعض لوحات الكادحين- ليبقى هو في السطح إلى حد ما.
وأبقى في السطح إلى حد ما – في لوحات الزهور- ليغوص هو في الأعماق.
إن اقترابي وابتعادي في الفن من فان كوخ كما في التجربة الحياتية ومن الطبيعي أن تعاطفي مع بروغل، ميليه، فان كوخ وموديلياني هو كتعاطفي مع كل إنسان عبقري أو مع كل إنسان بائس وإن اختلفت قيم هذا التعاطف ودرجاته.
أراك أحياناً في منتهى الصفاء الإنساني ملاكاً هادئاً كصباح صيفي.. وأحياناً كالصقر في لياليك العاصفة.. هل لك أن توضح؟
رؤيتك لي بهذه الصورة الجميلة صحيحة وليس هناك ما يدعو إلى التوضيح.
ما هي الإضافات التي تعتقد أنك أضفتها على الفن التشكيلي بشكل عام؟
ربما لن أستطيع الإجابة على هذا السؤال كما يجب لأن هذا من مهام ناقد فني مطلع ومثقف، لكنني حسب قناعاتي قدمت بعض الأعمال الرائعة سواء في المضمون أو في الشكل.
التبسيط – التحرير – الرمزية في اللون أشياء تمارسها كفنان واقعي لخدمة التعبير ما المقصود من نظافة اللون والخط.. إلى درجة التساؤل، لماذا؟
للوصول إلى منتهى الصفاء الإنساني..
عندما رسمت لوحة « ثم ماذا؟» وصلت إلى قمة تجسيد القضية الفلسطينية والتي اعتبرتها نخبة أعمالك السابقة.. وبعدها.. هل أعطيت لوحة بالمستوى نفسه؟
«في سبيل القضية» عمل ملحمي بثلاثين لوحة.. ولوحة «أمام باب المقهى» وإن اختلف المضمون والشكل.
الصياغة التشكيلية عندك هي صياغة معمارية رياضية بمعنى أنك تهتم بالتوازن الصارم.. والقوة والتكوين الواضح الذي على الأغلب يأخذ التكوين المثلثي الرأس في القمة والشاقول في ثلث اللوحة.. ألا تضغط هذه الأشياء على أعمالك وتحدد حرية الحركة عندك؟
إن التوازن الصارم والقوة في التكوين هما المحور الرئيسي في التشكيل في أعمالي وأما عن الضغط وتحدد حرية الحركة فالموضوع قد يتطلب هذا..
غالباً البعد الثالث تخلفه بواسطة التظليل بالرصاص أو الفحم ومن ثم تفرش اللون.. ومادام شفافاً عندك.. فإن الأثر يبقى واضحاً.. ألا تعتقد أنه نوع من التحايل على اللون وتنوع للمادة المرسومة؟.
عندما أؤكد على الخط فإن هذا ليس تحايلاً على اللون.. ولكنني معك في أنه تنوع للمادة المرسومة.
الضوء كحركة بفعل تأثيرات اللون هو رؤية فنية جديدة على التشكيل وخاصة في الواقعية.. ويظهر هذا الطابع في أعمالك الأخيرة «القوارب» بالإضافة إلى روح سريالية خفية تستلقي بلطف في ثنايا أعمالك.. ألا تعتقد أن الواقعية التعبيرية التي ارتبطت بأعمالك أخذت تنحو منحى آخر؟.
إن تلك النفحة السريالية التي تميزت بها لوحات «القوارب» هي طفرة كما ذكرت.
لك فلسفتك الخاصة في الحياة التي تحمل الكثير من الصوفية في الكثير من مواقفك الحياتية وطرحك الفني.. ماذا حملت لك الصوفية كفنان يعايش هذا الشعب وخاصة الطبقات المسحوقة منها؟
أحياناً مع وأحياناً ضد..
معظم أعمالك الأخيرة هي من أرواد ورأس البسيط.. بماذا تفسر الدفق الفني الذي يعطيك فترة زمنية محدودة هناك ولا تعطيك الاشهر الطويلة التي تقضيها في مكان آخر؟.
العطاء المناسب من المكان والزمان المناسب.
التاريخ: الثلاثاء11-1-2022
رقم العدد :1078