الثورة – لينا إسماعيل:
عرفته في السنة الثانية للثورة، وذلك في مدرسة الطبري التي تتوسط حي الشعلان الدمشقي العريق، كان مُدرِّساً ومُعلماً مخضرماً لابني فيها، نازحاً كما كنتُ وكان أغلب طلابه في تلك الفترة العصيبة، حيث جراح النزوح نازفة، والأرواح تائهة بعيداً عن جدران سترها وذكرياتها وشقاء العمر الذي شوهته آلة الحرب المقيتة، ثم عَلمتُ أنه اعْتُقِلَ على الهوية لمجرد أنه من كفر بطنا حيث الغوطة الشرقية حاضنة الثورة.
وكان قد اسْتُجوِبَ قبل ذلك في أحد مقرات الأمن من جراء تقرير بتهمة ذكر آيات قرآنية اعتاد تلاوتها جهراً في قاعة الصف صباحاً، إيذاناً ببدء رسالة العلم المقدسة لديه.
توثيق الألم على درب الأمل
إنه المؤرخ والباحث هشام أنور الخربوطلي، مواليد كفر بطنا عام 1955 الذي سُجِنَ، وتم تعذيبه مرات ومرات في أغلب الفروع الأمنية بدمشق، بتهم مختلفة كلها تصب في بوتقة نصرة الثورة، إلى أن فُصل من السلك التربوي مع ضياع كل تعويضات خدمته على مدى أكثر من ربع قرن، رغم أنه كان على أبواب التقاعد، ودُفِعَ بعدها قسراً لمغادرة البلاد.
اليوم يقدم خربوطلي للأجيال الجديدة كتابه التوثيقي “تاريخ كفر بطنا وقرى الغوطة الشرقية بين الماضي والحاضر” الذي قضى سنوات طويلة من غربته في إنجازه بخصوصية عميقة الأثر، كونه استقاها من وحي مجمل الأحداث الجلل التي شهدتها بلدته ومسقط رأسه كفر بطنا خلال سنوات الثورة السورية.
وفي بداية حوارنا معه أوضح لـ”الثورة” أنه قدم هذه الدراسة التوثيقية إهداءً لكل من يحبون بلادهم ويعشقونها، ولكل الذين ضحّوا بدمائهم من أجل حريتها، وإلى روح والدته ووالده، إلى أهله وأحبته وإلى كل المعلمين الذين بذلوا جهدهم في تعليم أبناء بلدتهم ووطنهم، حفاظاً وتوثيقاً لتاريخ النضال الثوري، والتضحيات التي قدمها الشعب السوري فداء للحرية.
المصادر والشواهد
ولأن القدرة على توثيق خصوصية إرثنا التاريخي والحضاري، تؤهلنا لحماية هويتنا، وامتلاك ناصية المعرفة للتحكم بمنجزات الوطن، وبالتالي صنع مستقبله، أوضح خربوطلي أنه أنجز هذا الكتاب عن بلدته (بلدة الحافظ الذهبي، وشهاب الدين، وعلي بن محاسن، والعمري) بماضيها وحاضرها، وكل جوانب حياتها، معتمداً في ذلك على ما جمعه من معلومات من مصادر تاريخية ومقابلات شخصية، كما اعتمد على دائرة السجل المدني قديماً وحديثاً، وقد حرص على تدعيم الكتاب بصور أرشيفية تعيدنا إلى خصوصية الأزمنة المفعمة بالأصالة والنخوة العربية الخالدة عبر الأجيال.
ولعل أهم ما يميز هذا الكتاب حرص مؤلفه على توثيق حركة النضال الثوري للغوطة الشرقية منذ عام 1926 ضد الاحتلال الفرنسي ذاكراً أسماء المجاهدين في معركة كفر بطنا، مدعمة بالصور، منهم القادة فوزي القاوقجي وشوكت ومنيف العائدي، وبعض رجالات حرستا وعربين ودوما وقرى الغوطة الشرقية، بالإضافة إلى مدينتي التل وداريا.
كما وثق ذكرياته مع الثورة السورية منذ عام 2011 عندما خرج الشعب الأعزل يطالب بحريته المسلوبة، مدعمة بصور شهداء الثورة وحكايات بطولاتهم، وكل من التقاهم في أقبية وسجون الفروع الأمنية للنظام المخلوع خلال معاناة اعتقاله عدة مرات بتهم مختلفة، منها التواصل مع الإعلام كشاهد عيان، وكيف كان يتم التفنن بتعذيبهم.
ووثق حكايات الشهداء والمفقودين بالأسماء والصور، كما سلط الضوء على تاريخ حوالي عشرين قرية ومدينة في الغوطة الشرقية وبعض قرى الغوطة الغربية، ومعاني تسمياتها وأعلامها ودورها في معركة التحرير، إضافة إلى توثيق مجمل عائلات الغوطة الشرقية وأعلام التربية المحدثين منذ القرن الثاني الهجري حتى العاشر، وكذلك علماء ومحدثي الغوطة، وبعض الشخصيات المؤثرة في العصر الحالي.
مخزون الذاكرة الثورية
من هنا تنبع أهمية الكتاب التوثيقي الذي قدمه مؤخراً للمكتبة العربية، والذي وثّقَ عبر 430 صفحة معلومات قيّمة حول تاريخ وتراث الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ودورها في الثورة السورية منذ عام 2011 وربطه بالدور الفاعل الذي نهضت به خلال اندلاع الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، لتشكل إضافة معرفية هامة للمكتبة العربية، لما يحتويه الكتاب من موضوعات نادرة استقاها من وحي مخزون ذاكرة اجتماعية وثقافية متفاعلة مع بيئته، كونه ابن كفر بطنا الوفي لمكنوناتها النابضة بمجمل الأحداث الجلل التي شهدتها عبر عقود طويلة، وحتى ساعات النصر المنتظر الذي توَّجته تكبيرات المآذن وزغاريد النصر.