الملحق الثقافي- سهيلة إسماعيل :
لماذا نكتب؟ أو ما جدوى الكتابة ؟ وهل ما زالت الكتابة فعلاً تغييرياً انقلابياً؟
أسئلة تبدو بسيطة بشكلها لكنها عميقة بمضمونها، يقابلها لدى مَن اختاروا الكتابة مهنة أو نهج حياة أسئلة أخرى من قبيل: إذا لم نكتب فلماذا نعيش؟ وما دورنا على هذه البسيطة؟ فما يصعب قوله بالكلام المنطوق يُعبر عنه بإلهام القلم والورقة. فالكتابة فعل نبيل نبل المشاعر الإنسانية، وهل هناك أجمل من الكتابة في التعبير عن الأحاسيس وما ترصده العين أو تسمعه الأذن؟ لكنَّ السؤال عن جدوى الكتابة يفتح أبواباً واسعة وربما يُبقيها مفتوحة. فهل المطلوب من الكتابة أن تكون حافزاً مباشراً للتغيير؟ وهل يطمح الكتاب والمؤلفون للوصول إلى هذا الهدف السامي؟
إنَّ من يضع عصارة فكره وثقافته ويعبر عن انعتاق روحه في كلمات وجدانية صادقة يبغي منها تجميل الواقع وتزيينه، وإحداث فعل توعوي لدى المتلقي ليقوم بتعيير ما يريد سواء على المستوى الفردي أم الجمعي وهنا تغدو الكتابة أحد الفنون الأدبية الراقية بلا منازع.
بالتأكيد، تزداد الإجابة عن الأسئلة تعقيداً في زمن التطور التقاني وما حمله معه من تأثيرات أدت إلى تراجع الاهتمام بالكتاب وسهولة الحصول على المعلومة.
وجهنا السؤال عن جدوى الكتابة للأديبة غادة اليوسف وللشاعر فايد إبراهيم فكانت إجابتهما تنم عن ثقافة كبيرة تنطوي على حب ما يقومون به:
كتبت غادة اليوسف رداً على السؤال:
«حين تكون الكتابة جهداً لا نفعياً بالمعنى الصرف ينهض سؤالٌ مربِكٌ في وجه اندفاعات القلم وهو يبصر العالم وقد هيمن عليه الأنذال والمجرمون والأميّون بالمعنى الروحي ..في زمن كثر فيه الكلام الجميل وقلّ فيه الفعل النبيل..حتى غدت الكتابة تجديفاً بلا جدوى وسط كون يختنق وسط ضحيج الحروب وصليل الآلات وسعار السوق والاستهلاك وأخطره سعار سوق السلاح..كون يلفظ أنفاسه ..إذ لم يعد للكلمة المكتوبة تلك الهيبة حين انحرفت عن شرفها ومصداقيتها..تلك الكلمة التي لم يعد بمقدورها أن تشرع للحلم أفقاً أو تسدّ للشر باباً.. فهل نكتب لنلوّن سواد الواقع والأشياء ..ولنتجاوز تفاهتها؟ ونتخطى جهامة الحياة وعبثيتها حين نمنحها المعنى؟ أم نكتب رعباً من العزلة حين نقول ما نفكر فيه إذ نلقي بذواتنا القلقة بين أذرع الآخرين استجابة لنداء الروح التوّاقة للانعتاق من وحشتها ومنفاها بنرجسية البحث عن الذات..والرغبة في التعرّي مما يثقلها؟ فتهجع في سكينة مؤقتة..وهدنة هشّة..تتصالح فيها رحابة النفس مع ضيق الواقع ومحدودية الأشياء؟ أم إننا نكتب لنؤكد حضورنا في العالم..وتأثيرنا فيه..ولنوثّق بصماتنا ووقع خطواتنا لحظة عبورنا في الزمن؟ فنكتب لنحرر روح الإنسان وجسده..ونعيد صياغته وتأهيله عبر جلجلة تحرير البشرية من بؤسها؟ نكتب ليكون الغد أقل سوءاً من اليوم..ولنحعل الحياة أفضل وأكرم وأشرف مما هي عليه الآن..بإصرارنا على التمسك بالحلم كقدر لا مفر منه..وبشغف عميق بالحياة والحرية..نحن البسطاء الحالمين المعذبين المنفيين في أوطاننا ..المتشبثين بحقنا في الحياة الكريمة..والذين لا حدود لآلامنا…؟ أم نكتب سعياً لانتزاع هوية قادرة على أن تؤنسن جبروت الوحش الرابض في معبد حضارة السوق المعدنية..بثالوثها المدنّس: المال..والسلعة..والسلاح؟ أم إننا نكتب لنؤرخ أوهامنا وأحلامنا لحظة عبورنا،لنفك شيفرة الحياة السرية عبر ابتلاء العقل بقلقه وهو يرتطم بالخواء في حمأة لوبانه على الحقيقة المطلقة ليروي عطش الروح، دون أن يصل إلى ما يُشبع مسغبتها؟ أم نكتب لنمارس طقساً من طقوس المتعة،بالتطهر والتسامي،وتزكية النفس، والتشرّد القدسيّ صوب آفاق الخفايا السرّانية النائية؟ إذ بالكتابة تعيد النفس صياغة ذاتها بارتقاء مدارج الخير والجمال، وتزكو وهي تنسكب من أكوار الوجدان لتنسرح في الفضاء الكوني، تغتسل بأشعة الشمس، وتنغمر بومض النجوم؟ أم نكتب لنستشفي من السأم، ونحتال بالتواصل على العزلة والهجران؟ إننا نكتب لنقاوم البشاعة بالجمال، والكراهية بالحب، والقلق بالسلام، ونحقق بالبوح حرينا وبهجتنا وغبطتنا وسلامنا الداخلي… نكتب لنسقي من نزف أكبادنا قرنفل الكلام، وننثر ورد الحنين على قبور من نحب ؟ نكتب لنقف في وجه الموت والتلاشي.
وقال الشاعر فايد إبراهيم: لماذا تكتب؟ وما جدوى الكتابة ؟سؤالان يستدعيان أسئلة: لماذا ترى ؟ لماذا تشم وتسمع وتلمس؟ لماذا تفكِّر؟ لماذا تريد أن تخرج من سجونك؟
ثم لماذا تتدفق الينابيع؟ وتغرد العصافير؟ ويبوح الزهر بالعطر؟
لماذا تنهمر درر السحب؟ لماذا يتواصل الجذر مع البراعم؟
ثم لماذا تتفوَّه الجراح ؟ لماذا تتنهَّد الأفراح؟ لماذا نصلِّي للجمال؟ لماذا نرقِّص الأطفال؟ لماذا نغرس الغراس ؟ لماذا نقرع الأجراس؟؟!
عَوداً على بدءٍ أكتب
(في البدء كان الكلِم )
(لمردوخ البطل سلَّموا مصائرهم وأعطَوه أعلى قوَّة إلهية وهي قوة الكلمة الخالقة..)
ولما كانت (عقول الناس مدوَّنة في أطراف أقلامهم وظاهرة في حُسن اختيارهم) كما قال أفلاطون، فقد كان لا بد أن (يوزن مداد العلماء ودماء الشهداء يوم القيامة، فلا يفضل أحدهما الآخر…) كما قال الرسول محمد (ص)
بوستوفسكي يقول:
«إن كل دقيقة، وكل كلمة، وكل نظرة عابرة، وكل فكرة، عميقة أو تافهة، وكل نبضة من نبضات القلب البشري ….
وبالمثل كل الزغب المتساقط من أشجار الحور، وضوء النجوم المتلألئ منعكساً على صفحة الغدير.. كل هذه ذرَّات من ذهب، ونحن ــ معشر الكتَّاب ــ نجمع بمضيِّ السنين، عن غير قصد، الملايين من هذه الذرَّات الدقيقة، ونحتفظ بها، إلى أن نشكل منها وردتنا الذهبية الخاصة، سواء أكانت قصة أو رواية أو قصيدة. من هذه الذخائر الثمينة يولد تيار الأدب.»
رحم الله جبران خليل جبران الذي قال:
«جئت لأقول كلمة، وسأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد، فالغد لا يترك سراً مكتوماً في كتاب اللانهاية … والذي أقوله الآن بلسان واحد يقوله الآتي بألسنة متعددة.»
«فكل شاعر حقيقي يعرف أن قبره هو فضاء كلماته، ويدرك أن الشاعر لا يرتكب الذنوب إلا تحية لبراءة الشمس.» كما قال قاسم حداد:
ما جدوى الكتابة؟
«الأحرف ليست أصواتاً بل هي أنفاس يتكوَّن من مجموعها الروح كما تتشكل الحياة.» محيي الدين بن عربي
ولأن الكلمات عصية على النفاد فقد تعلق بها بابلو نيرود الذي قال:
«إنني أحب غرسها وهزَّها لتسقط منها الثمار، وأطلقها لتنتشق عبير الحرية..»
والكلمة تواصل طريقها قد (تتعثر وتتأخر، ثم تبعث قوية .. نناقش حولها نحاور، ننقد، نختلف، نرفض، نقبل، نعدِّد الاتجاهات، وقد ندين بلا تحفُّظ، أو ننهل بلا تروٍّ إلا أن السلب والإيجاب يتمان ضمن إطار واحد هو اللسان الذي يعبِّر عن وجودنا، وينشئ هذا الوجود…
الكلمة وحدها تتخطى الحدود التي أقامها الأجنبي، والفواصل التي يضعها في البعض الآخر.» أنطون مقدسي
ويتابع المقدسي:
«الكلمة تسبق العمل، تحيط به، تشق له فسحته، تكشف له مراميه. الكلمة تقوِّم، توقظ، تنبِّه، تحاور. وهي فعل إذ إنها الشعب تعبيراً.»
وحين سئل الروائي الشيللي العالمي غابرييل ماركيز عن رسالته الأدبية قال:
من كتبي ينتظر القارئ في أميركا اللاتينية أن يتمكن من التعرف على نفسه فيها. هذا يعني أنه يريد أن يعرف كيف هو ؟ ما هو؟ كيف يعيش ؟ وأين يقف؟وأنا أرى في هذه الحالة أن أهم مساهمة يمكن أن يقدمها كتَّاب أميركا اللاتينية هي مساهمتهم لإيجاد الهوية.
إن البحث عن الهوية الذاتية هو نشاط فني حتى لو لم يكن القارئ يبحث عن الفن في الكتاب..»
وأخيراً نقول:
إن الكتابة خبزنا وملحنا وماء حياتنا وخمرة روحنا، وسلاح أحلامنا وطموحاتنا، ودليلنا إلى الغاية، وهي مطيتنا للوصول إليها.
إنها السلاح العقلي والوجداني الأنجع لمواجهة أنياب ومخالب الثقافة الاستعمارية الخبيثة المتوحشة.
وإذا كان الكاتب لا يكتب اليوم بحجة عدم جدوى الكتابة فإنه يفتح الأبواب والحواجز للغزو الثقافي القادم من شتى أنواع الغابات والصحارى.
إن الأقلام المعبأة بالسم مستنفرة ليل نهار للنيل من كياننا وكينونتنا، فما على الأقلام النظيفة إلا أن تدخل في خضم الصراع بوعي وجرأة وإيثار وتكتب بحبر الدم كلمات تشع نوراً يفضح الزيف والحيف، ويكشف المكائد والخرافات والإشاعات والأوهام..
إن من أولى مهمات المثقفين والمبدعين تعزيز القيم الأخلاقية والجمالية وبث روح الأمل والتفاؤل، وتوطيد أواصر المحبة والتعاون وتنمية الروح الوطنية والإنسانية، ومحاربة اليأس والتيئيس والفساد والمفسدين
والويل لمن خلَّى مكانه للأقلام المعادية والمأجورة. والعار والشنار لمن ضل أو ضلل والتحق في صف أعدائه ليغدو (كطاعنٍ نفسه ليقتل ردفه) كما قال علي بن أبي طالب (ك)
ولا بد من تذكر القول المأثور:
(أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام)
إنني أكرر ما قلته في مقابلة أدبية سابقة:
إن الشاعر المنتمي لا يستطيع أن يكون حيادياً أمام أهوال الحروب وجرائم المستعمرين وفظائع الجهل والتخلف والاستبداد، ووسائل الإعلام والدعاية المخادعة.
لا بد أن يكون ذا رسالة تنويرية تعزز حب الوطن وقيم الجمال والبطولة والسلام، وتزرع الأمل والتفاؤل بالحياة والناس وتحرض على مواجهة القوى الظلامية الغاشمة بمختلف ألوانها. وذلك يتطلب منه مواكبة الحداثة بوعي وثقة وإيمان، والتفاعل مع المجتمع بعيداً عن الترف الإبداعي البائس أو التقوقع والانعزال في قمقم العدمية واليأس)
العدد 1100 – التاريخ: 21 – 6 – 2022