الملحق الثقافي- علم عبد اللطيف:
الحديث عن الكتابة هو تلاقي الداخل مع الداخل، كحسناء تصف نفسها، أو تطلب من شاعرها…صِفْني واسترسل واستوحِ.. أشيائي دوماً للبوحِ.
وقبل كل شيء، الكتابة دشّنت عصرها الذي سمي باسمها، وكان ميلادها تاريخاً ومعلماً، قبل الكتابة وبعدها.
في البدء كان الإنسان يكتب لنفسه، لضرورات الإشارة والتحديد، وتطورت الإشارات الى رموز، رسوم واشكال، ثم أصبحت حروفاً وأبجدية، وحين تكامل اصطفاف الحروف ولدت اللغة، ولد التفكير باللغة، والتفكير بالكتابة، في مرحلة سابقة على ذلك، كانت المشافهة التي تؤول بحكم طبيعتها إلى اختصار القول، أو الاكتفاء بما يفيد المعنى، لذلك قالوا.. خير الكلام ماقلّ ودلّ، ولم يقولوا خير الكتابات ما قلّت، فالكتابة نحت بالقول إلى الأدبية وجنوح الخيال، وأسهم ذلك بولادة نصوص لم تُعَد لتحفظ، بل لتقرأ، وتعاد قراءتها أكثر من مرة، مما أتاح لأبعاد ودلالات كثيرة أن تظهر، وهو العمق في الأدب، فالشعوب نقلت الحكايات، روتها، وكانت متشابهة إلى حد كبير كما درسها آلان بروب، لكنها بقيت حكايات شفهية، الكتابة ارتقت بالحكايات إلى القص المكتوب، القصة والرواية، وأتاحت الكتابة للأدب أن يتقدم، وللحقيقة هذا أمر تاريخي.
فالكتابة هي تفكير جديد.
سؤال الكتابة، ولماذا نكتب، هو تساؤل عارف، لكنه مشروع دوماً، لا أحد يجهل ما يريد قوله، بعيداً عن مستويات القول والكتابة، فنقول.. نكتب أولا لأننا نجيد الكتابة، ونكتب لأننا نشعر بضرورتها، ليس للتعبير عنا فحسب، كل كتابة هي رسالة، ويتم تلقيها، فيتحقق شرطا الخطاب، الارسال والتلقي، وتقوم اللغة بمهمتها في عملية التوصيل، هنا يمكن القول إن الكتابة هي فعل تفكير جمعي، يتعدد المتلقون، القراء، خلافاً للشفهي من القول، وهو التاريخ الذي أنجز ذلك بكفاءة الفكر الإنساني، ودوماً بكتاباتنا نساعد التاريخ في إنجاز معاملته المستمرة، وهي تخصنا، لأننا جزء منه، التاريخ يتابعها بتؤدة ودون علم منا ربما، بكتابتنا نكون كمن يحمل معاملة التاريخ باليد من مكان لمكان، ويجمع التواقيع.. ويسرّع المعاملة.
في الكتابة نفكر بطريقة تختلف عن تفكيرنا خارجها، الكتّاب يعرفون هذا بدقة، ويتساءلون أحيانا، أنّى لنا هذا؟ كيف أتى، لم نعده مسبقاً، وقد تسمع الكتابة التساؤل، أو تدركه، فتجيب بتدفق أكثر، هل هو سرّ؟ حسناً.. لنحاول تفسير الأمر، ألا يمكن أن يكون للكلمات مرصوفة ومتتالية، تأثير في استحضار إيحاءاتها؟، نميل للقول، أن نعم، ليست المفردات ومرادفاتها فقط، بل الكلمات ونقيضها، أو عكسها، معنى ومقصد، وحقيقة أن الكتاب يعيشون كتابتهم كما لو كانوا يعيشون حياة لا عهد لهم بها، وكثيراً ما تفلت الكتابة من سيطرتهم، وتتخذ مسارها غير عابئة بالمعد مسبقاً، يعيش الكاتب تحولات شخوصه التي ابتدعها..أو يظن أنه ابتدعها، لكنها تبدو كما لو أنها استدعته إلى عالمها الذي فُرض عليه، يحزن لحزنها ويأسى لمصيرها، ويفرح بفرحها، ويعيشها حقيقة لا تخيلاً..
هناك ما يدعوه النقّاد لحظة الكتابة، وعموماً.. النصوص هي لحظات متصلة ومتتابعة، هذه اللحظة تأتي بها الكتابة، لا تكون محضّرة مسبقاً، الكتّاب يعرفون هذا، الروائيون تحديداً، ترِد أفكار غير مخطط لها، وتنفلت الشخصية الروائية من سيطرة الكاتب، تتخذ مساراً يُدهش الكاتب نفسه، لا يعرف من أين أتت وكيف حدث ذلك.. تستقل عنه تماماً، وتصبح العلاقة بين الكاتب وشخصياته، علاقة واقع وليس افتراض، واقع لا يمكنه التحكم به كما يشاء.. ولديّ يقين.. أن معظم الآداب العالمية العظيمة، هي نتاج هذه الحالة، ولو كان الأمر خلاف ذلك، لكانت النصوص تقريراً بحتاً.. يرسمها الكاتب بالمسطرة، فينتصر الحق والخير دوماً.
أذكر في رواية (عذراء قريش) طبعة دار الهلال.. ل (جرجي زيدان).. وضع الروائي حاشية أخيرة..
(لا غَرْوَ إذا بكى القارئ (أسماء). فقد بكيناها قبله..).
(أسماء).. هي بطلة الرواية.. التي يعرف القارئ أن جرجي زيدان قد عشقها فعلاً.. كما عشق تولستوي (أنّا كارينينا). وكما عشق (ميشال زيفاكو).. بطلة روايته (عشاق فينيسيا). (ليونور).
العدد 1100 – التاريخ: 21 – 6 – 2022