الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
لم تعد مواقع التواصل الإلكترونيّة حكراً على شريحة، أو عمر، أو مهنة؛ بل صارت موائل للتعالق في مختلف مناحي الحياة؛ ويتنوّع الكلام بين مهمّ واستهلاكيّ وعابر، وجدّ ومزاح، وعلم ومعرفة، وتعالم وتعارف، وتسالٍ ودردشات؛ بين حوارٍ مسؤول، وقول بلا طائل، بين رأي مقدّر، وثرثرة متاحة ومباحة؛ وأخبار وتعليقات متبادلة، وتحليلات بلا تكليف ولا كلفة؛ علوم ومكتشفات، وخرافات، ومعتقدات، نصوص أدبيّة، ونقد، وأفكار اجتماعيّة، وتودّدات، وعواطف، وخصومات… بكلمة موجزة؛ إنّها الحياة المعيشة منقولة افتراضيّاً! ومن الطبيعي أن تسود في هذه المراودات لغة الحياة ومكوّناتها؛ بتعبيراتها وملفوظاتها ونبراتها ومصطلحاتها البيئيّة؛ تلك التي تستخدم في مختلف الطقوس والفصول والمناسبات والتفاصيل. وهذه اللغة عفويّة في الأساس، طبيعيّة، محكيّة، غير متكلّفة؛ لكنّ الاضطرار إلى التعابر والتداول والتداخل خلل الصفحات والمواقع، يحمل إليها بعض التكلّف؛ تفاصحاً، أو تلاعباً، ولا أقول تصويباً أو تقويماً؛ بل هو خليط غير متجانس من كلّ هذا؛ وقد تتزيّد اشتقاقات وهجانات، وغرائب من الألفاظ التقنيّة والتكنولوجيّة المتداولة حديثاً؛ فتتلوّن بافتراق، أو تتحوّر، وتتباهت؛ فتضيع العامّيّات الشفويّة المألوفة، وتتشوّه الفصيحة حتّى في أبسط تشكيلاتها!
وهناك تشويه أكبر يقع على اللغة العربيّة، يتمثّل بانتقال اللهجات العامّيّة المحكيّة إلى الكتابة، وهذا يؤدّي إلى الاعتياد عليها مدوّنة، بعدما كانت كتابتها محدودة؛ سوى في المسلسلات الإذاعيّة والتلفزيونيّة وفي المسرحيّات، والأغنيات، وفي ما يسمّى بالشعر المحكي؛ باختلاف مسمّياته وأشكاله، الذي يطبع في دواوين، ويشارَك به في ملتقيات ومنادمات! لقد كانت الكتابة بالعامّيّة مدعاة للخجل؛ حتّى في مراحل الأمّيّة المستشرية، ويلجأ من يضطرّ إلى التدوين في أيّ أمر، إلى من تمكنه الكتابة باللغة العربيّة المفصّحة؛ وإن بأبسط تعبيراتها؛ ولا سيّما في الرسائل وعقود البيع والشراء والفواتير وسواها؛ فيما صار التدوين العامّي مألوفاً على الشابكة، ومجالاً للتفاكه والتسافه، والمبارزة؛ حتّى في بعض الحوارات الجادّة، والقضايا المهمّة. وقد زادت نسبة المدوّنين بالعامّيّة في مواقع التواصل لمختلف القضايا الحياتيّة؛ ومنها الكتابات ذات الصبغة الأدبيّة، التي صار من السهل نشرها عامّيّة، وتعميمها إلى بقاع الأرض المتباعدة، لمن يهمّه الأمر! وصار لهذه المسألة صفحات ومواقع ونواد وسجالات وجوائز وشهادات وألقاب، ودعوات للكمّ، واللمّ، لا للنوع والموهبة!
وهناك كتابات تأخذ أشكال الفصحى؛ من دون تدقيق أو مراجعة؛ فالأمر رهن الرغبة في الحضور، والمشاركة في الرأي، أو نقل الآراء والمرويّات والطرائف والأفكار، وتسويقها؛ كما إظهار الانفعالات المختلفة إزاء حوادث وأحداث ومواقف وقضايا مطروحة للنقاش؛ سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسواها؛ وهنا لا تؤخذ اللغة وسلامتها بالحسبان؛ بل تقال الأمور كما هي، وكما ترد على الألسن، وحسب الإمكانيّات، التي لا يُتعب كثيراً أو قليلاً، ربّما، في إظهارها؛ وتمثّل صورة عن المستويات المتفاوتة للإلمام باللغة، من دون ضرورة إتقانها؛ وفي الوقت الذي يستحسن فيه اعتمادها على اللغة الفصيحة اليسيرة، وتعميمها وسيلة للتواصل عبر المحطّات والنوافذ العربيّة والعالميّة؛ فإنّ الأخطاء التي تحملها، تسري، وقد تقلّد، وتستهضم من دون اهتمام أو انتباه.
أمّا الكتابات، التي تستعمل فيها اللغة الفصيحة أداة ووسيلة لا بدّ منها، ولا بديل منها؛ بدعوى الكتابة الأدبيّة؛ فهي التي تُنثر، وتتناثر؛ في كثير منها، من دون تدقيق أو تمحيص، ومن دون مراجعات ربّما. وتظهر فيها أخطاء نحويّة وإملائيّة، وركاكة في التعبيرات والصياغات؛ كما قد يبدو فيها ارتباك في المعاني، واختلال في الموازين والموسيقا، في الأشكال، التي قد تُدّعى الكتابة فيها، أو تتبنّاها، وتهتمّ بها. ويظهر في إكثار بعضهم أو بعضهنّ، من إطلاق النصوص، إلى أنّهم متسرّعون في القول، أو في النشر والظهور؛ مستسهلين الأمر؛ معتمدين على حال الإمكانيّة المتاحة بلا قيود، وردود الأفعال الأكثر تسرّعاً؛ إعجابات، وعبارات اندهاش وتعظيم وتفريد في التعليقات المنهمرة بلا وقت، يكفي للتمعّن بما كُتب؛ بل حتّى لتصفّحه أحياناً؛ كأنّما كلّ من الكتبة جميعهم صار الأخير زمانه! وقد وصل الأمر إلى حدّ جمع ما يكتب في الصفحات العنكبوتيّة، وعدّه (مؤلّفات كاملة)! على عكس ما جرت العادة، أو سرى العرف- أو، على الأقلّ، ما أقوم به؛ إذ أنشر افتراضيّاً على صفحتي وموقعي، ما تمّ نشره في دوريّات أدبيّة أو علميّة، أو كتب، وما أنشره خلاف ذلك، مرهون للصفحة وقرّائها، للاطّلاع السريع على رأي في حالة راهنة، أو موقف من أمر، أو تعليق على موضوع، ولا بدّ من مراجعته وتدقيقه مرّات، قبل أن يطرح على الملأ؛ لأنّ المتلقّين بالآلاف، ومن مختلف الشرائح، وهذا يستوجب تعميم الأشكال الصحيحة لغويّاً على الأقلّ؛ كتابة وصياغة؛ إذ إنّ من المشكلات القائمة افتراضيّاً، والمستفحلة للأسف، أنّ الأخطاء تعمّم، وتسوّق، من دون خجل، والمطّلعين عليها لا يعدّون، ولا من يصحّح، أو يدقّق، ولا مجال لهذا، أمام الكثرة والكثافة والغزارة، التي غلبت الحرص والنباهة والنبالة؛ فيما كان الخطأ يُخجل، حتّى إن ظلّ مكتوماً، لا يدري به سوى صاحبه، ومدقّقه أو مراجعيه؛ مع أنّه يصوّب من خلال أوّل قارئ ثقة حريص على اللغة العربيّة والناطقين بها، المدوّنين، الكتّاب… ودعونا لا نغبط حقّ عدد من الكتّاب الموهوبين، الذين يحترمون أنفسهم، ولغتهم وقرّاءهم، ولا يُقدمون على النشر الفضائيّ، إلّا بعد استمهال وتحقّق وشبه يقين من صوابيّة ما يطرح؛ من جهة اللغة؛ على الأقلّ! ولا نبخس من يودّ التعبير عن مكنوناته بجرأة وصدق، غبطته؛ بتوافر إمكانيّة ذلك بين يديه؛ مع إغلاق معابر أخرى ومنافذ أمامه؛ ولكن نأخذ عليه؛ رأفة به، وحفاظاً على سمعته، وصوناً لموهبته- إن وجدت- وحرصاً على اللغة، أن يسأل، ويسترشد، قبل أن يتورّط، ويورِّط! ومن المفارقة المؤسية أنّ هذا الجهاز المحدود الحجم، غير المحدود الإمكانيّات، يحمل في طيّاته إمكانيّة الوصول إلى المعاجم والمراجع والمواقع المهتمّة باللغة؛ بسرعة ويسر؛ لكن.. لا وقت للقوّالة؛ ولا للناس، الذين ينتظرون، أو لا ينتظرون، وليت هؤلاء وأولئك يعلمون! والكارثة إذا ما كانوا يعلمون!
هناك أمر آخر، تجدر الإشارة إليه؛ وهو ما بات يُتبادل من حكم وأمثال وأقوال، وعبارات معايدة وتهان في المناسبات، وما تتمّ إعادة توجيهه مرّات ومرّات؛ بدلاً من اللقاءات الإنسانيّة والأحاديث المباشرة، التي كانت، وتعّذّرت، والرسائل الحميميّة المكتوبة بخطّ اليد؛ بأخطائها وصياغاتها العفويّة البسيطة المحبّبة؛ ربّما، الممهورة بالتواقيع الشخصيّة، والاتّصالات الصوتيّة ذات النبرات الحيويّة والعبارات العاطفيّة، والدعوات والأمنيات… فهل يمكن لهذا الذي صار فرضاً وعرضاً لازماً، سليم الصياغة مطبوعاً بلا أخطاء، وملوّناً ومزيّناً، مزيداً ومنقّحاً، ومتفنّناً في تصميمه، أن يعوّض عمّا كان يقال أو يكتب بعاطفة ومشاعر وبأخطاء وصياغات بسيطة محبّبة؟! أم إنّه يشبه (البالة) البضاعة المستهلكة المسوّقة العابرة أجساداً وأوقاتاً ومناسبات، وإن كانت من أشهر المصانع والتصميمات؛ يفتقد الروح، والحساسيّة، والنبض الشاعر؛ كما يفتقد الأسى عليه، حين نسرع إلى الحذف والإلغاء؛ كيلا تمتلئ «ذاكرة» الجهاز، التي تتشاسع باطّراد؛ كلّ تصميم متجدّد، وكي تستوعب ما هو جديد، وغير أثير، ولا يمكن ردّه؛ من أمثال هذه المتروكات؛ وكيلا نفكّر في ذاكرتنا المثقّبة بشظايا الافتقاد، الغاصّة بأثافي الراحلين؛ وشمّاعات صورهم الذابلة وأشيائهم البائسة، اللائبة على أطياف عزيزة، وأصداء ماتعة.
العدد 1106 – 9- 8-2022