الملحق الثقافي – دلال ابراهيم:
نشرت مجلة إسكوير الأميركية هذا العام قائمة بأفضل خمسين رواية خيال علمي، وجاءت رواية فرانكشتاين للكاتبة البريطانية ماري شيلي في رأس القائمة، الرواية الصادرة في عام 1818. ويُروى عن نشأة الرواية « أن الكاتبة شيلي وفي أحد الأمسيات التي حضرتها برفقة بعض الأصدقاء وكان منهم لورد بايرون، أخذ الحضور يتحدثون عن تجربة كان أجراها العالم لويجي جلفاتي باستخدام الكهرباء على عدد من الضفادع الميتة، وأسفرت تلك التجارب عن ظهور تشنجات في عضلات تلك الضفادع. واكتسبت تلك التجارب شعبية على مستوى القارة الأوروبية، وكانوا مبهورين بها. وفي وسط الحديث أشار بعضهم لإمكانية استخدام الكهرباء في إعادة إحياء الموتى. وأضاء ذلك النقاش برقاً في عقل شيلي وأخذها إلى فكرة روايتها التي أصبحت فيما بعد تحمل اسم ( فرانكشتاين ) وبعد هذه الأمسية طلب لورد بايرون من جماعة الأدباء الحاضرين كتابة قصة مرعبة. ومن هذا التحدي كانت بذرة الرواية.» بينما تروي شيلي عن رؤية كابوسية راودتها عقب هذه الأمسية حيث رأت « طالب شاحب يركع إلى جانب الأجزاء التي جمعها وشبح الشخص الذي يعود إلى الحياة» هذه الرؤية هي ما حولتها فيما بعد إلى روايتها الأشهر. وترجمت شيلي في الرواية مخاوفها من التجربة التي دوى صداها في أرجاء أوروبا. وعلى الرغم من أنه يمكن النظر لرواية (ماري شيلي) (فرانكشتاين) بأنها تتنبأ بطغيان العلم وربما إشارة لما سيعرف مستقبلًا بزراعة الأعضاء. إلا أن شيلي في الحقيقة كانت تكتب عن مخاوفها لا نبوءة تراها قادمة. فحين كتبت ماري شيلي روايتها الشهيرة كانت تبث مخاوفها من التقدم العلمي الجارف الذي أخذ بالحياة اليومية في وقتها، وكان فرانكشتاين صافرة إنذار ضد التوغل العلمي الفاقد لأي سباق أخلاقي. ومن نظرة دينية للعصر ما قبل الفيكتوري تعد فكرة تحدي عالِم للإله في صنع إنسان حي فكرة صادمة.
وفي خوف آخر من العلوم والتكنولوجيا التي لا تعرف سقفًا أو حد كتب الروائي الروسي (يافجيني زامياتين) روايته (نحن-We) في أعقاب الثورة البلشفية. ويصور الأديب في قصته عالماً كابوسياً حيث يُرَقْم فيه النساء والرجال، ويعيش شخوصه في بيوت زجاجية تمكن الحكومة من مراقبة جميع تحركاتهم. وحملت الرواية نبوءة مفزعة عن إمكانية استخدام التطور التكنولوجي ضد البشر. وكانت مخاوف الكاتب من التكنولوجيا هي محركه الرئيسي لكتابة (نحن) والتي كانت مصدراً هامًا لإلهام جوروج أورويل في كتابه (1984) .
وقد تحمل روايات الخيال العلمي طابعاً نبوئياً كارثياً كرواية (عالم جديد شجاع) والتي تحمل تساؤلاً من الكاتب (ألدوس هكسيلي) عن تحكم التكنولوجيا في البشر. وفي روايته يتصور هكسيلي عالماً تكون الهندسة والتعديل الوراثي فيه أموراً سائدة ويتسم بالتفكك الأسري. ويلقي العلم في رواية هكسيلي بالتعاسة خلف ظهره حيث يصبح التحكم بالأمزجة عبر العقارات أمراً شائعاً. أحداث الرواية جعلت كثيرين ينظرون لها بصفنها رواية نبوئية.
وضمن هذا السياق كثيراً ما يُشار إلى أدب الخيال العلمي في الأحداث المستقبلية والاكتشافات التي يقع عليها العلماء، حيثُ تتجه الأنظار للروايات من هذا النوع بالذات كي ندلل على وجود نبوءة سابقة للحدث الجديد. غير أن روايات الخيال العلمي قد تٌلهم البعض لابتكارات جديدة. فمثلًا في رواية (عشرون ألف فرسخ تحت الماء-) للكاتب الشهير (جول فيرن) والذي يعتبروه الأب الروحي لأدب الخيال العلمي حيث تبنى هذا النوع الأدبي وأعطاه شكلاً حديثاً ومتقناً، وكان يغلب على أعماله المنطق العلمي، نجد البطل الرئيسي كابتن نيمو يخوض مغامراته في أعماق المحيطات مستخدمًا أدوات متقدمة كالغواصات. أحداث الرواية والمعدات التي يستخدمها الأبطال ألهمت المخترع الأميركي (سيمون ليك) وهو مخترع الغواصة، وصرح بأنه يدين فكرة اختراعه للكاتب فيرن وذلك بعدما قرأ روايته. فيما تحقق الخيال الذي تصوره في روايته ( من الأرض إلى السماء ) الصادرة عام 1867 حين هبط نيل ارمسترونغ في القمر عام 1969 .
وفي حين تجمع الأكثرية على أن أدب الخيال العلمي ظهرعلى الساحة الأدبية منذ ما يقرب من 300 عامِ تزامناً مع الطفرة التي حدثت في العلوم، و تسارع الاكتشافات العلمية. مما جعل الكتّاب يحاولون استيعاب ذاك التسارع بالكتابة عن عوالم مستقبلية متخيلة بناءً على ما يشهدوه من تطوّر، بقي يعاني لبساً في المفهوم ويتقاطع مع أجناس أدبية أخرى كالفانتازيا والأسطورة والخرافة، ليقف أغلب النقاد محبطين من استخلاص تعريف مفهوم واضح لهذا الأدب. فإن كان هو الأدب الذي يتعامل جزئياً أو كلياً مع موضوعات الغرائب والخوارق والمخاطر، فإن الأولى بنا اعتبار ( أوديسة ) هوميروس و ( ملحمة جلجامش ) و ( حكايات ألف ليلة وليلة ) من أدب الخيال العلمي. وبالتالي يمكننا القول :إن روايات الخيال العلمي قد بدأت منذ بدأ الانسان يعي الوجود وتتفتق مخيلته لمواجهة ظواهر فاقت قدرته على فهمها ومواجهتها.
هذا وقد تمّ تحديد أقدم النسخ النصية لملحمة جلجامش لبلاد ما بين النهرين القديمة على أنها تعود لحوالي 2000 قبل الميلاد، وكان مؤلف الخيال العلميي الأميركي ليستر ديل ري أحد المؤيدين لاستخدام جلجامش كنقطة أصل، مجادلاً بأن « الخيال العلمي قديم تماماً مثل أول رواية مسجلة، هذه هي ملحمة جلجامش « وجادل كاتب الخيال العلمي الفرنسي بيير فيرسينز أيضاً بأن جلجامش كان أول عمل خيال علمي نظراً لمعالجته للعقل البشري والسعي وراء الخلود. بالإضافة إلى ذلك يظهر جلجامش مشهداً فيضاناً يشبه في بعض النواحي أعمال الخيال العلمي المروع. إلا أن الافتقار إلى العلوم أو التكنولوجيا الواضحة في العمل أدى بالبعض إلى القول :إنه من الأفضل تصنيفها على أنها أدب رأي .
ومن خلال هذا المنظور يعتبر كتاب ألف ليلة وليلة له قصب السبق في هذا النوع الأدبي، إذ يحتوي على ثيمات تقليدية في روايات ذلك النوع الأدبي مثل الرجال غير المرئيين والسفر عبر الزمن وآلات الطيران الغريبة وحتى السفر بين النجوم والكواكب . وكثير من القصص التي وردت في الكتاب تحمل طابع الخيال العلمي، ومن أمثلة ذلك قصة علاء الدين الذي يطوف العالم فوق البساط السحري، وكذلك القصة التي جاءت تحت عنوان 🙁 حكاية بلوقيا ) التي تروي قصة أحد الفتيان الساعين وراء عشبة الخلود ( هاجس جلجامش ) وفي سبيل العثور عليها يطوف الكون ويمر بمجتمعات عديدة بل ويصعد إلى الفضاء، فالقصة تتضمن تصورات عن المجرات والكواكب والنجوم وغيرها، هذا بجانب قدر لا بأس به من الفانتازيا والخيال، إذ أن أغلب القصص تظهر خلالها بعض الظواهر الغريبة، مثل تناسخ الأرواح أو الأشجار والحيوانات الناطقة.
وبالعودة إلى جون فيرن الأشهر لدينا بين أدباء هذا النوع الأدبي، حيث تعتبر كتبه هي الأشهر بالتنبؤات، لنقرأ ما تنبأه لمستقبلنا. في عام 1863 كتب فيرن روايته ( باريس في القرن العشرين ) تضمنت توقعاته لباريس في عام 1960، ولكن رفضها الناشر لسوداويتها، الأمر الذي سينعكس على نسبة مبيعاتها . وفي عام 1989 تم العثور عليها من قبل أحد أحفاده وتم نشرها في عام 1994 وحققت أعلى المبيعات في فرنسا. يتوقع فيها فيرن الكهرباء والسيارات ذات محرك الاحتراق الداخلي وقطارات الانفاق ومراقبة السلطات للمواطن بالتكنولوجيا وحتى المصاعد والكمبيوتر والانترنيت. وبالمقابل توقع أن ينحصر اهتمام البشر بالمال والتكنولوجيا بشكل مقرف وإهمال الثقافة التام واحتقار العالم للمفكرين والمثقفين. ولكن بالتأكيد كان لوضع فيرن حينها تأثيره على اصدار هذه التوقعات السوداوية. ففي الوقت الذي كانت فيه رواياته تحقق الشهرة الواسعة وحصوله على وسامين من السلطات حينها، إلا أن المجتمع والأوساط الأدبية لم تعتبره بمستوى كبار الأدباء مثل فيكتور هيغو، ولا سيما أنه فشل في أن يصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية التي كانت تضم خيرة أدباء وعلماء فرنسا.
وفي أعقاب هذا الاستعراض لأدب الخيال العلمي نتسائل: هل نتفق مع كاتب الخيال العلمي البريطاني آرثر سي كلارك صاحب فكرة أقمار الاتصالات الصناعية في قوله : «القراءة النقدية لأدب الخيال العلمي، هي بمثابة تدريب أساسي لمن يتطلع إلى الأمام أكثر من عشر سنوات.»؟؟ وفي الماضي كان الناس يقرؤون الخيال العلمي كوسيلة الترفيه والتسلية، ثم استعمله لتخطيط المستقبل، لكن الآن أصبح من أهم الوسائل التربوية والتعليمية الحديثة كما أنه من أهم الأسباب الضرورية للإبداع والاختراع والابتكار والفكر، لغرس حبّ العلم وإعداد العلماء والمبدعين والمبتكرين والمفكرين، وليستعد الجيل الجديد لمواجهة صدمات وتحديات الحاضر والمستقبل. ويمكن أن يقال بأن أدب الخيال العلمي ضرورة اليوم بلا خلاف حتماً.
العدد 1109 – 30- 8-2022