إهداءات أدبيّة

الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:

كنت أتطلّع إلى الوقت، الذي يمكن أن يكون لي فيه مطبوعة؛ متحمّساً لإهداء نسخة من كلّ كتاب يصدر، إلى الأقرباء والأصدقاء، ومن أظنّ أنّ لديه اهتماماً أدبيّاً، وكنت أرى في الإهداء تكريماً، ما بعده تكريم؛ تماماً كما أتلقّى مثل هذه الهديّة بشكر وتقدير وامتنان. وتعدّدت كتبي الصادرة، وتواصلت الإهداءات بالمئات، من دون الالتفات إلى قضيّة الاستثمار في هذا المجال، وهذا أمر موضوعيّ؛ فإذا كنت أهدي كلّ من هو معنيّ- وغير معنيّ- في حيّز الحركة والمعيش، فمن الذي سيشتري؟! ربّما كانت الحماسة سببَ عدم اهتمامي بمحصّلة تلك العمليّة، أو بالنظر إلى جدواها؛ على الرغم من بعض مظاهر الاستخفاف، والادّعاء، والتظاهر، والتسخيف والتيئيس، التي لم تكن تخفى؛ مع ذلك، يمكن أن أسوّغ ما كنت أقوم به- ومؤسف أن يحتاج مثل هذا الفعل إلى تسويغ- بأنّ حسن النيّة والغبطة بالنتاج والعطاء، كانت وراء ذلك؛ إضافة إلى احترام الحال الأدبيّة والثقافيّة والمنشغلين بها، والرغبة في تعميمها؛ وقبل ذلك وبعده، الثقة والقناعة والإيمان بالثقافة.
ويمكن القول بأسى وقلق، بعد سنوات من التخويض في هذا المجرى المستعذَب، والمستعكَر، إلى لا مستقرّ، بأنّ تلك (النزوة) الماتعة، بدأت تخفّ، وبتّ أتردّد كثيراً في الإقدام على تقديم كتاب جديد؛ هديّة قيّمة؛ كما أراها؛ ما زلت أراها! وحدث، ويحدث، أن أحمل في محفظتي نسخاً من إصدارات متعدّدة، تجوب برفقتي المواقع واللقاءات والاجتماعات والحوارات، وتعود معي؛ من دون أن يكون لديّ دافع إلى أن أهديها إلى أحد! ومن غريب الملاحظة، أن تبقى نسخ عديدة لديّ، من حصّة المؤلّف الضئيلة أصلاً ممّا يطبع! فليست قلّة ما بات يطبع، من الكتب، في المؤسّسات العامّة والخاصّة؛ على أهمّية هذا السبب، هي التي تقف في خلفيّة هذا الإحجام؛ بل ربّما احترامي لذاتي، وللكتاب وما فيه، وخوفي من ألّا ينال الاهتمام المطلوب؛ لانشغال معظم الناس، بهموم وحاجات ومتطلّبات أخرى؛ ومنعاً لتوريط المهدى إليه بتبعات- غير ماديّة- لا يتحمّل أعباءها.
فهل خفّت حماسة الآخرين إلى أن يتلقّوا هديّة مميّزة من هذا النوع، حقّاً؟! وتلك مصيبة؛ أم تخافتت الثقة المتبادلة بين القارئ والمؤلّف؛ ومن ثمّ القناعة بجدوى العمليّة الثقافيّة من أساسها؛ وتلك مصيبة أكبر. وماذا عن احترام المؤلّف لسواه من المؤلّفين، وقناعته بأنّه؛ وإيّاهم، والمتلقّين، والمؤسّسات والمجتمع، معنيّون دائماً؛ وخاصّة في النكبات؛ كالتي نعيش، بإحياء الحال الثقافيّة، وإغناء الحياة الثقافيّة. وثمّة أمر آخر، يتّصل بهذه المسألة؛ فقد صار ما يُهدى إليّ قليل أيضاً؛ ربّما لخوف من رأي غير مستحبّ! فهل عليّ، أو على من يُهدى، أن يقرّظ أو يمتدح ما أهدي إليه؛ فحسب، أو يلتزم الصمت؟! وهل كلّ رأي جادٌّ وجديرٌ أن يسمع؟! ومن يقرّر هذا؟!
علينا أن نعترف بأنّ هناك أزمة تتعلّق بالكتاب بشكل عام، في مواجهة الاجتياح الالكترونيّ؛ لكن لنعترف أيضاً أنّ هناك ما هو جدير أن يُقتنى من كتب، وهناك ما لا يستحقّ ذلك؛ وليست نسبته قليلة! فهل أسهم هذا في المشهد العام، الذي لا يميل إلى مصلحة الجدّيّة والمسؤوليّة؛ إضافة إلى نشاطات وتعويمات وتمظهرات بلا مسوّغ، ولا طائل ولا جدوى؟! وللأسف، يعاني هذا الوسط الأدبيّ- الثقافيّ؛ وهو الأخطر؛ كسواه من الأوساط الأخرى؛ وللأسف أيضاً وأيضاً، بلا استثناء، من عدم التعيين، أو ضحالة نسبة التقييم الموضوعي!
وعلى ذكر الفعاليّات الثقافيّة؛ هناك ظاهرة أخرى، كنت، وما زلت، أنظر إليها بتساؤل ودهشة وعدم ارتياح؛ هي مناسبات توقيع الكتب، أو محافل التوقيع تلك؛ ربّما كانت، فيما مضى، سبيلاً لتعارف بين مؤلّف بعيد وغير معروف، وقرّائه المهتمّين، الموزّعين، في شرائح ومناطق وجهات؛ وكان المؤلّفون قلّة، ولا يظهرون كثيراً، وليست صورهم متداولة أو مألوفة، وربّما كانت لتلك المحطّات طقوس ثقافيّة مميّزة، تقوم بها بيوتات ومؤسّسات، لها تاريخها وحضورها، وتكون منطلقاً للإضاءة الإعلاميّة الضروريّة المفتقدة آنذاك. مع ذلك، ولنكن صريحين؛ أليس في المسألة توسّل بشكل أو أشكال؛ كي لا نقول تسوّلاً؟! أليس فيها إحراج لمن يجب أن يشتري؛ لأوقّع له ما اشتراه، وعليه أن يعدّ توقيعي؛ لا الكتاب، هديّة من السماء؟! أليس فيه إحراج لمن ينتظر من يشتري كتابه، ليمهره بتوقيعه المبجّل؟! ألا يجوز التساؤل حول هذه الواقعة؟! ألا أقوم بتسويق توقيعي مع الكتاب، أو أبيع توقيعي بدلاً من الكتاب، أو على هامش الكتاب؟! أم أنّ الكتاب هامش لتوقيعي؟! فالمناسبة هي توقيعي، لا الكتاب؛ ألا يكفي- يجب أن يكفي- كتابي ممثّلاً عنّي، وعن توقيعي؟! وهل الكتاب الذي لا يوقّع منّي، لا يحمل بصمتي؟! لقد أرّقني منظر كاتب مهمّ، ينتظر وحيداً لوقت مهمّ، في معرض مهمّ، من يتكرّم عليه، بشراء أيّ من كتبه المهمّة؛ ليوقّعه له! وهو لا يحتاج إلى إعلام، ولا إلى شهرة، ولا إلى سواهما! وأسفت عليه- وعليّ- وخجلت من الاقتراب منه، وتذكيره بنفسي؛ فهل كان ينتظر منّي، فقط، وبلا خجل، أن أتقدّم إليه بأحد كتبه؛ ليوقّعه، من دون أن ينظر إليّ مثلاً، كما فعل مع ندرة آخرين؟!
ونعود إلى التساؤل المشروع: ما هي نسبة القرّاء والمهتمّين بالكتاب والقراءة من بين من جاء ليشارك في الحفل؟! ونحن نعرف، وأنتم تعرفون، أنّ كثيراً من الحاضرين لا يشترون، وكثيراً من المشترين، لا يقرؤون، فقد حضروا من أجل عيون المؤلّف أو الكاتبة، وليتصوّروا معه أو معها! حتّى إن كان للمساعدة الإنسانيّة؛ فهناك سبل أخرى أكثر احتراماً وكرامة ونبلاً؛ لماذا لا يكون الاهتمام بالكتاب ومؤلّفه من خلال دراسات جدّيّة، وندوات نقديّة، ومناقشات علنيّة لأفكاره، وأسلوبه، ولغته؛ من قبل مختصّين، ومهتمّين وجهات قادرة ومسموعة؟! ولم تعد مسألة الانتشار الإعلامي مهمّة؛ مع وجود الصفحات والمواقع، التي تكاد تغرق، وتغرقنا، بالصور، التي نحتاج إلى وقت مهمّ لا لتقرّيها والإعجاب بها؛ بل لحذفها! والجميع يعلم هذا!
أرجوكم لا تستمرّوا في وضع الكاتب والكتاب في هذه الورطة، وأرجوكم ألّا تقبلوا أن تتورّطوا!
ألا ترون الكتب في الساحات، وعلى البسطات، وأماكن أخرى؛ بإهداءات مدبّجة وعبارات عاطفيّة؟! فلماذا لا نتساءل، قبل أن نفرح باصطيادها وتصيّدها هناك، عن أسباب وجودها في تلك الأمكنة، والسبل التي سلكتها إليها؟!
لهذا، فقد أحجمت عن الدعوة، وبكامل قناعتي، إلى مثل هذه المناسبات؛ فيما يخصّني من إصدارات، تعلمون أنّها بلغت العشرات!
وليعذرني من قد لا يعجبه هذا الرأي، وهذا الموقف؛ فنحن في حاجة إلى مراجعة صادقة وجدانيّة جادّة لكلّ ما نقوم به، أو يقام في جميع المجالات؛ ولا سيّما الثقافة؛ ولا يعني مجرّد حضوره واعتياده، مشروعيّته وصلاحيّته وجدواه!
ولا يؤكّد وجود عدد كبير من الكتب المهداة إليّ، أو المشتراة بتوقيع مؤلّفها، جودتَها وقيمتها المعرفيّة، ولا يشترط ذلك.
وهنا يبرز جانب آخر للمسألة، أرى من المهمّ الإشارة الجادّة إليه؛ فحين نعتزم إهداء كتب من مكتبتنا إلى أفراد أو إلى مراكز أو مكتبات عامّة أو خاصّة؛ فهل نتخلّص حقّاً ممّا لا يعجبنا، ولا يهمّنا، ولا نرى فائدة في اقتنائه؛ لضعف أو عدم أهمّيّة، أو عدم رضا عنه؛ حتّى إن كانت كلمات المؤلّف الهادي تزيّنه؟! ألا نرتكب بذلك جريمة بحقّ من سيقرأ؛ وبحقّ الأدب والثقافة والذائقة العامّة؟! بترويجنا لما هو غير جدير من وجهة نظرنا، ووضعه في متناول الآخرين؛ وقد يكون هناك مبتدئون وهواة في القراءة والكتابة؛ فما ذنبهم؟! وكيف أرضى لنفسي أن أمنح بضاعة فاسدة أو مغشوشة، أو لا أعدّها مهمّة؟! ولماذا لا أتلفها؛ بدل أن أعمّمها؟! ألا يفترض بي؛ وفي نيّتي أن أُغني مورداً للناس، أو أغذّي المحتاجين، أو المتطلّعين، أن أقدّم لهم الأفضل؛ ما أراه الأفضل؟!
وهنا ربّما يخرج الأمر عن مؤلّفات الكاتب المهداة، إن وجدت؛ لأنّ تقييمها بالنسبة إلى مؤلّفها قد يختلف!
العدد 1123 – 6-12-2022

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق