الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
شاعر متمرِّد مرهف الحس مشبوب العاطفة مضطرم الشعور، كان عطاؤه ثرّاً وشعوره متميِّزاً حقاً. لم تكن حياته مديدة ولكنها كانت عريضة. لقد مرَّ في سماء الأدب كالشهاب الثاقب، وغاب هلالاً قبل أن يكتمل بدراً. إنها كلمات خطتها أنامل الأديب عمر الدقاق في توصيف الأديب والشاعر عبد الباسط الصوفي.
حياته
يبدو أنَّ حياة عبدالباسط الاجتماعية، إضافة إلى فقره المادي عملا على زيادة يأسه وهلوسته، فرسالته المبعوثة إلى اِحدى صديقاته تؤكِّد المعنى ذاته، وتحتوي تجربة معاناته مع أجواء الضوضاء والفوضى في البيت، حيث يهرب من ضجيج لهدير، ومن ضياع لضياع، يبحث عن ملجأ يعطيه الهدوء والطمأنينة؛ لكن دون جدوى قائلاً: «لم أستطع أن أدرس إلا بصعوبة كبيرة، أليست هذه مهزلة، يا صديقتي أن يعيش الإنسان في جو يبعث فيه كلّ العواصف القاتمة، ويضطر إلى ذلك اضطراراً؟ تمنيت أن تشاهدي الموقف وتسألي نفسك، أتضحكين أم تبكين؟ كيف أمسك رأسي الثقيل بكلتا يدي، وأضغط على جبيني وتندفع شفتي السفلى إلى الأمام بقرف، وأسير بضع خطوات ثم أتهالك على الطاولة فترقص السطور أمام عيني، وتوشك السيجارة أن تنتهي فأصلها بأخرى، ويتناثر الرماد على ثيابي فأتركه على حاله، ولم لا؟ ألست يا صديقتي لفافة بشرية تحترق، ولا أجد من ينفضني ولو عن طريق السخرة».
شاعر الرومانسية
يُعتبر عبد الباسط الصوفي، المولود في حمص عام 1931 والمتوفى عام 1960 نتيجة انتحاره في مدينة كناكري بغينيا، في طليعة أعلام الرومانسية في تاريخ الأدب الحديث بسورية، إلى جانب صديقه وصنوه الشاعر الحمصي الآخر عبد السلام عيون السود، حتى لكأنَّهما توءمان، عاشا ظروفاً صعبة مشتركة كما اتسما برؤى متقاربة، ونزعات متشابهة، وعنفوان الشباب.
إنَّه شاعر غنائي مرهف، تمتاز قصائده بنكهة خاصة تنمُّ عن صوفيَّة حالمة ونزوع طاغٍ إلى الجمال، كان شغوفاً بالطبيعة مفتوناً بمحاسنها. طاف في ربوعها على ضفاف العاصي وغابات لابي وكوناكري واستمتع بمباهجها وسحرها.
وتدور أقوال نقَّاده حول ذات متوحِّدة بشعره، وربَّما قارئة لمصيره، تكثر في شعره الوحشة والجراح والأحلام وأمواج النور وظلال الفجر في مواكب الربيع؛ ثم الذهول والخيبة والظمأ والبحث عن النفس والانطواء والحنين وغربة الروح. ووجد في عاطفة الحب منفذاً للفيض العاطفي، كونها تحمل وجداً وأنساً يقيه وحدة مخيفة كانت تكتنفه، وبداية لإدراك الجمال، والاندماج الحاد في العالم. إنَّه شاعر غنائي مرهف الحسّ مضطرم المشاعر مشبوب العاطفة، في قصائده نكهة خاصة تنمُّ عن صوفيَّة حالمة، ويحمل بعض شعره القومية والحنين كان أحد الشعراء المتمردين الثائرين على الواقع المتهاوي. كتب القصيدة العمودية، كما كتب شعر التفعيلة.
أدبه
إنَّ شعره ونثره مفعم بصرخات غاضب وأنات جريح قال: «ليس هذا عالمي الذي أبحث عنه، إنني غريب وأشعر بغربتي في كلِّ دقيقة. لم أعد أستطيع التنفس بسهولة، إنني غريب غريب؛ وإنَّ مملكتي ليست من هذا العالم».
كان يشعر بالغربة حتى في بلده ووطنه، وبين أهله وقومه، شأن أمثاله من الشعراء في كلِّ زمان ومكان، وكان يكثر من الكتابة وتدبيج الرسائل والمقالات، دائباً على نظم الأشعار المفعمة بالآهات والنفثات الوجدانيَّة الصادقة. ففي رحاب الكلمات الجميلة والمشاعر المشبوبة كان يجد العزاء والسلوان.
ويرى أنَّه «في الشعر يحيا العالم كله في لحظات، وتختزل جميع الحيوات في هنيهة سكرى مفعمة، وتغني الحقائق وترنم الأفكار، الشعر يقود إلى الله».
أنشد:
صديقتي، لم يبق في عيوننا بريق
لم يبق في ضلوعنا تلهف عميق
أقدامنا، تمضي بها جنازة الطريق
وتجهش الخطا على رصيفنا العتيق.
تضمَّن كتابه: «آثار عبدالباسط الصوفي الشعرية والنثرية»، عدداً من القصص القصيرة، وجزءاً من رواية لم يتمّها، وعدداً من المقالات النقدية، وعدة رسائل وجَّهها إلى صديق له، ورسالة واحدة إلى أستاذه سامي الدروبي.
الرؤيا للشاعر ولدوره القدسي جعلت عبدالباسط يختار رفاق دربه ممن يعيشون لهب الحبِّ والبوح الإلهي، فعرفته مقاهي حمص باحثاً عنهم في «الروضة إلى الدبلان، إلى المنظر الجميل، إلى الفرح» وجمعته بأصدقاء كان لهم فيما بعد دور مهم في عالم الأدب، ومنهم: «وصفي القرنفلي، خليل السباعي، عبد القاهر الجندي، إحسان مسوح، عبد السلام عيون السود، ومراد السباعي».
ممدوح السكاف
يرى الكاتب والشاعر ممدوح السكاف أنَّ تجربة حبِّ عبدالباسط الصوفي الأولى كانت الأكثر تأثيراً في حياته ومصيره، كما أشار إلى تجربة حبٍّ ثانية في حياته ظهرت للعلن من خلال رسائله، وأتت تعويضاً على إخفاق الأولى، وردَّ فعلٍ على فشلها ويكون من جملة البراهين والمستندات إثباته كما قال:
يتكرَّر اسم ليلى وليس اسم (س) في رسائله منشورة
يُعرّف «حبيبته ليلى» على أماكن من حمص المعروفة لها لأنَّها ابنتها ومن عائلة عريقة مشهورة فيها، يُعرِّفها الشاعر على شارع الدبلان، والساقية الجديدة، والعاصي، وسواها من المحال الحمصيَّة العامة؛ ويدفعنا إلى الاعتقاد أنَّ ليلى ليست فتاة حمصيَّة.
ويبدو من خلال رسائله أنَّه كان يعيش معها حالة اطمئنان عميق وسعادة ورأفة وغبطة روحيَّة لم يعرفها في حبِّه الأوَّل المتَّسم بالحزن والقلق والخوف والتشاؤم.
وعلى ما يبدو فإنَّه كتب لها قصائد شعرية، وورد ذكر اسمها في قصيدة «حنين» بينما لم يرد ذكر محبوبته الأولى في شعره رغم أنَّها أثَّرت في حياته تأثيراً كبيراً وتركت بصماتٍ واضحةً في سلوكه وتصرُّفاته فيما بعد.
كما تعرَّض عبدالباسط لتجربة عاطفية ثالثة لكن من نوع أدبي، فأحبَّته شاعرة سورية ولم يبادلها الشعور نفسه، بل كان يعتبر ما بينهما من علاقة عبارة عن صداقة بين شاعرين وزمالة بين أديبين يتطارحان الآراء في الشعر والفلسفة والأمور الحياتية، ولم يظهر صداها في إنتاجه على الصعيد الشعري، أو كتابة الرسائل، على عكس الشاعرة العاشقة فتلاحمت في قصائدها آثار الحب يلفُّها غروب الشمس وترتعش همسة عميقة بين حفيف الأشجار.
العدد 1166 – 7-11-2023