الثورة:
ديب علي حسن:
الدولة الشريرة، أو الدولة المارقة، هما عنوانان لكتاب واحد للمؤلف الأميركي وليم بلوم، وكان موظفاً كبيراً في الخارجية الأميركية، حين أصدر كتابه هذا لاقى صدى مهماً في عواصم العالم كله، وفيه يتحدث عن إساءات السياسة الأمريكية للعالم، ومحاولة فرض ثقافتها وكلما تريده على الدول بالنزعة العسكرية، أو الغزو الثقافي.
ألم يقل أحد رؤساء أميركا: إن قدرنا أمركة العالم؟ ولكن كيف يؤمركون، وما الأدوات التي يعملون من خلالها على ذلك.
قبل الحديث عن الدولة المارقة، نشير إلى أن الراحل عبد الوهاب المسيري كان قد أطلق على مثل هذه المشاريع الغربية (الحداثة السائلة أو المائعة)، وانتقل إلى تعريف مصطلح أمركة العالم، فهو يرى أن (الأمركة) مصطلح خلافي داخل المعجم السياسي العربي والغربي، من دون أن يتم تعريفه بالرغم من شيوعه.
وسأحاول أن أبذل محاولة مبدئية في تعريفه وتوضيح بعض تضميناته الفلسفية.
والأمركة في تصوري- والكلام للمسيري- هي محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بالصبغة الأميركية وإشاعة نمط الحياة الأميركية، ويوجد مصطلح طريف قريب منه للغاية هو مصطلح “الكوكلة” أو “الكوكاكوليزيشن”، والكوكاكولا هي رمز نمط الحياة الأميركية وانتشارها وتدويلها.
تنطلق الرؤية الغربية من أن العالم في جوهره مادة، وأن ما يحكمها هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو غير مادي ليس بجوهري ولا يمكن أن يؤخذ في الاعتبار حينما ندير شؤون دنيانا ومجتمعنا، وأنه لا يوجد شيء ثابت في الكون بما في ذلك الطبيعة البشرية.
وقال أحدهم: إن الأمر ليس كوكلة وحسب، وإنما هي كوكاكولونيالية، بدلاً من “كولونيالية” أي أن الكوكلة هي الاستعمار في عصر الاستهلاكية العالمية، وهى استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء.
كما كتب أحد علماء الاجتماع كتاباً بعنوان “”مكدلة العالم” (نسبة إلى ماكدونالدز) الذي يصبح هنا رمز الأمركة بدلاً من الكوكاكولا.
والمجال الدلالي لكلمة “أمركة” (أو “كوكلة” أو “مكدلة”) يتداخل مع كلمة “تغريب” و”علمنة” باعتبار أن العلمنة الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وبعض مجالات الحياة العامة، وإنما هي عملية فصل كل القيم والثوابت والمطلقات (باعتبارها شكلاً من أشكال الميتافيزيقا) عن العالم والطبيعة وحياة الإنسان العامة ثم الخاصة، إذ يتحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية لا قداسة لها ولا خصوصية ولا مرجعية لها سوى المرجعية الكامنة في المادة، أي ما يسمى بقوانين الحركة، (آليات السوق- المنفعة المادية- شهوة السلطة- الجنس- علاقات الإنتاج).
وانتشار الأمركة في العالم هو تعبير عن هذا الانتقال من مرحلة الخصوصية إلى مرحلة العمومية في المجتمعات القومية العلمانية، وهو ما نشير إليه بالانتقال من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة، ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
وبعد أن كان السوق والمصنع هما العنصران الأساسيان ينضم إليهما قطاع اللذة والاستهلاك الذي نرمز له بالملهى الليلي أو شركة السياحة.
ويجب أن ندرك أن هذه الأمركة ليست مؤامرة أو حتى مخططاً، وإنما هو نسق حضاري (أو شبه حضاري) لا يحطم الحضارات الأخرى وحسب، بل ويحطم الخصوصية الأميركية والثقافة الأميركية ذاتها.
فالهامبورغر ليس طعاماً أميركياً، والديسكو ليست موسيقا أميركية، وإنما هي أشكال حضارية ظهرت مع انتقال الحضارة العلمانية الأميركية والثقافة الأميركية من مرحلة الخصوصية والصلابة والتماسك إلى مرحلة العمومية والسيولة، وهو انتقال يؤدي إلى تحطيم الخصوصيات الأميركية (حضارة الساحل الشرقي، حضارة وسط أميركا، حضارة الجنوب… إلخ). وهي حضارات محلية في غاية الثراء، كلها آخذة في التآكل السريع بتأثير عمليات الأمركة والعلمنة (في هذا المادي).
لهذا يمكننا القول: إن الأمركة، في واقع الأمر، مترادفة مع “العولمة” و”الكوكبة” التي تزيل الحواجز بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والأشياء، ليظهر الإنسان الطبيعي الذي لا خصوصية له ولا هوية).
أما الإساءات التي نتجت عن ذلك ومازالت مستمرة فهي التي نرى نتائجها على أرض الواقع، وكون واشنطن هي عاصمة الدولة الشريرة تحاول أن تشيطن العالم لتخرج هي من المصطلح.
ومن اللافت أن وليم بلوم مؤلف كتاب الدولة الشريرة يكتب قائلاً: (لو كنت رئيساً للولايات المتحدة الأميركية لأوقفت في بضعة أيام الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة الأميركية نهائياً، وذلك أولاً بتقديم اعتذاري لكل الأرامل والأيتام والأشخاص الذين عذبوا والذين سقطوا في حالة من البؤس ولملايين من ضحايا الامبريالية الأميركية الآخرين).
هذا ما يقوله وليم بلوم، مؤلف كتاب “الدولة الشريرة” إساءات السياسة الأميركية لشعوب العالم، وقد ترجمه إلى العربية الدكتور محمد عرب صاصيلا، وصدر عن دار الذاكرة بدمشق، نحتاج اليوم هذا الكتاب أكثر من أي وقت مضى، نريده أن يبقى على المقعد وفي المكتبة وفي كل مكان، ليرى السادرون في غيهم وضلالهم أنهم ضالون مضللون، وأنهم يدرون ويعرفون أنهم أدوات رخيصة بيد الولايات المتحدة وإسرائيل ضد شعوبهم وبلدانهم.
وبالعودة إلى استكمال ما قاله بلوم، إذ يضيف قائلاً إلى ما سبق وتالياً: بإعلاني في أقاصي الأرض أن التدخلات الأميركية في العالم انتهت نهائياً، وإعلامي إسرائيل بأنها لم تعد الولاية الواحدة والخمسين في الولايات المتحدة الأميركية، وإنما هي من الآن وصاعداً بلد أجنبي، وهو أمر من الغريب قوله.
ثم بتخفيضي الميزانية العسكرية بنسبة تسعين بالمائة على الأقل، واستعمالي الفائض في دفع تعويضات للضحايا، وسيكون ذلك أكثر مما يكفي، فالميزانية العسكرية في سنة واحدة البالغة 330 مليار دولار تعادل أكثر من 18 ألف دولار للساعة الواحدة منذ ولادة يسوع المسيح، هذا ما كنت سأفعله في الأيام الثلاثة الأولى، وفي اليوم الرابع كنت سأقتل.