وميضٌ من نوعٍ آخر

الملحق الثقافي- ر – س:                      

شاعر مسكون بالضوء والعتمة، الوضوح والغموض وإلى البساطة أقرب، كحقلٍ سنابل ناضجة كجباه أشجارٍ عاليات، هو الشاعر صقر عليشي الذي نقرأ بمتعة ما يكتب، قرابة أربعين عاماً، يترك لنا الأبواب مفتوحة فلا نهايات عند أبواب القصيدة ولا لون يسيطر على مسراها.
فما إن تفتح كتابه الصادر حديثاً عن اتحاد الكتاب العرب «كتاب اللمحات» حتى تحلّق في جماليات المعاني ووميض الكلمات إلى حيث يشتهي، فيتركك مرة بأجنحة الخيال تعلو ومرة بعمق المنطق تحطّ على أرضِ الخيبة، وهذا ليس غريباً على شاعرٍ مخضرم يعرف كيف يطوّع اللغة ويسير في جموح المعنى ويتتّبع خافقه ليرتاح تحت كروم اللغة.
«كتاب اللمحات» لماذا كلمة كتاب ولا يكون العنوان «لمحات» ؟.. ربما لتفعل ال التعريف فعلها، فيعرّف اللّمحة بنظرته الخاطفة لكل ما يطوف حولنا، يقدمها لنا بقالب محكم العاطفة والوجدان حيناً وسخرية وحكمة حيناً آخر، لا يستنكر نقاط الضعف ولا يعترف بنقاط القوى، فيتركنا كقراء نتتبعه بهدوء حذر وسكون آمن، نجري معه في نبع الكلمات العذب بسلاسة اللغة وأناقة الصور وتفرّد المعنى والبعد عن التقليد والمعتاد في الشعر النثري.
نمضي معه في ثلاثين لمحة للشاعر عليشي نرنو معه منذ البدء من لمحة تاريخية يريد الإفصاح لنا عنها فكتب:
تأتيني الأخبار ملوّنة
ملء الشاشة
من آخر شبرٍ في الغيبِ وأبعد
وأنا من جئت إلى هذه الدنيا
بالأبيض والأسود!!
لم أكش الفراشة عن مفرداتي
ولم أتناول بسوء لها أثراً
ولم أتهم جانحيها بوهنٍ
سلوها ..
تركت لها أن ترفرف مزهوة ً
وكنت حريصاً على نشرِ لألائها في الكتاب.
نقرأ وهي حقاً لمحة بصر ولمحة حزن ولمحة شعور كدقة قلب تخفق تترك في عقلك انطباعاً جميلاً عن كاتب تلك السطور ليتعدّى صفّة الشاعر بل المفكر الذي يكتب فلسفة خاصة به تجعلك تتلمس ذاتك الإنسانية من ثم تفكّر بالمنطق مؤمناً بالاختلاف والتناقض والتكامل كله في لحظة واحدة ولمحة واحدة.
لمحة لن أطيل عليكم بها
سأسرع
يكفي الذي مر بي
وخبرت
وتشهد لي «الهاونات»
بأني حضرت مسيراتها
وهي ترسم «قوس الترحْ»
وتشهد لي داعش
أنني كنت
ممن أعدت لهم سيفها
في الوضح
سأسرع كي أتفادى سقوط القذائف..
أبدع عليشي عشرات المؤلفات الشعريّة والتي لاقت الإعجاب وتركت أثراً مهماً ومميزاً في الساحة الثقافية والشعريّة، إلا أن الشاعر تمنّى لو استمع له الشعراء الكبار شعره لكان لهم ناصحاً، فقد حجز لهم من لمحاته حيزاً فوجّه في لمحة مع المعرّي:
لو أنّ المعرّي أدار عنايته
لحديثي ونصحي
لعاش طليقاً
ولم يتغضّن به العمر
وهو رهين المحابس
لو كان يقرأ شعري
لما ظلّ في الهم والبؤس جالس.
وفي لمحة مع المتنبي :
لو استمع المتنبي لما قلت له
وخلّى مع الخود أيامه
وأوسع في عيشه للمزاج قليلاً
وأوسع في شعره
لتجلس الحسناء مرتاحة
وفسر فستانها وإزاحاته
وأوّل أقراطها المنزله
لو تتّبع إثر خطاي
وحاز جميل المثالب.
وفي لمحته مع عروة بن الورد :
إلى عروة والصعاليك
كان المسير
وخبّ بنا في المجاز الجمل
أثرنا غباراً كثيراً
فما سلم الأفق منه
ولا سلمت رؤية
ولا سلمت أسطرٌ
أو جمل.
وفي لمحته عن أبينا آدم :
لم يكن جدّه القرد
_استغفر الله_
هذي من الشائعات
لم يعش أي جد له
في مجاهل إفريقيا
أو على شجر الجوز في الهند
يقفز من فوق أغصانها العاليات لم يشاهد لأجداده ذنب
يتدلّون منه هناك..
يمتلك الشاعر عليشي عناصر القصيدة الشعريّة الحداثية، بانتقاء مفردات وتراكيب واضحة بلغة السهل الممتنع، يكتبها محافظاً على مساحة للتفكر، معتنياً بجوهر المعنى مع تقديمه لنا بقالب فني فيه الدهشة والحداثة والابتعاد عن التكرار، فهو ابن الشعر متجذّر فيه حد التماهي.
لمحة عن الكلمات
لست هنا لأعدد ما فعلت من أمجاد
هذه الكلمات
وما يمكنها أن تفعل لست هنا لأعدد من نعمٍ
لست هنا..
ليحيط الشعر بما صنعت
بالمجمل
كانت في البدء»يقول لنا سفر التكوين»
لم يحتج منها الخالق
إلا حرفين ليبدع هذا العالم
هو آدم مخلوق منها
أكثر مما هو مخلوق من طين.
يأخذنا الشاعر عليشي في لمحاته ونظرته الدلالية إلى ما هو كائن وما يجب أن يكون بطريقته الخاصة عن البلاد، فينهي بلا الناهية ويحكي لنا رغم كل النواهي ويؤكد بياء الملكيّة ارتباطه الوثيق بها من ثم يناديها فكتب:
لمحة عن بلادي
لا يلاقي هنا خائن حرجاً لا يلاقي الكريم له ماء وجهٍ
ليستره
لا تلاقي الحقيقةُ من جهةٍ
لتشدّ الركاب على فرسٍ
لا تلاقي الثلوجُ بياضاً لتلبسهُ
لا يلاقي الرغيفُ ممراً
إلى جائعٍ
لا يلاقي هنا القوس نصراً ليرفعه
لا تلاقي القلوب صفاء
لتحمله
لا يلاقي الطريق على شرفٍ
من يميط الأذى
لا تلاقي الأراجيح عيداً
يهز لها فرحةً
لا تلاقي المرارة من وجهةٍ
غير أطفالنا!
لا يلاقي هنا علم عزه
لم يجد قمةً ما تناسبه للسكن
لا يلاقي فضاءً ليخفق ملءَ المدى
لم يلاقِ الوطن
لا يلاقي هنا نفقٌ ضوءه في الأخير ..
بلادي بلادي
لون جديد من الألوان يضيف الشاعر عليشي على ألوان قصيدته هو لون حزن وفرح في آن، يمزج مشاعرنا في ريشة المعنى ويلطّخ وجعنا الآدمي ويمضي بنا إلى الرغبة في الانعتاق من كل ما يقيد أرواحنا الحرّة.
أنا ههنا أضع اللمسات الأخيرة للّون
عند النبيذ
أخطّ وصايا الجمال
لعشّاقه القادمين
وها هو يترك إمضاءهُ..
أنا ذاهبٌ
سوف أرجع لا تقلقوا
أنا ذاهبٌ
لأزيّن مسرى القصيدة
من أول الطير في سربه إلى آخري.
     

العدد 1171 – 12 -12 -2023  

آخر الأخبار
مصفاة بانياس تدعم مهارات طلبة الهندسة الميكانيكية بجامعة إدلب الأونروا: الوضع في غزة يفوق التصور الاحتلال يستهدف خيام النازحين في خان يونس ويهدم عشرات المنازل في طولكرم اللاذقية: تحسين الخدمات في المناطق المتضررة بالتعاون مع "اليونيسيف" حذف الأصفار من العملة المحلية بين الضرورة التضخمية والتكلفة الكبيرة نقص كوادر وأجهزة في مستشفى الشيخ بدرالوطني الصحافة في سوريا الجديدة مليئة بالتحديات والفرص بقلم وزير الإعلام الدكتور حمزة مصطفى "الأشغال العامة": دورات تدريبية مجانية في قطاعي التشييد والبناء درعا.. إنجاز المرحلة الأولى من تأهيل محطة ضخ كحيل تفعيل العيادات السنية في مراكز درعا تأهيل مدرسة في بصرى الشام حول عقد استثمار الشركة الفرنسية لميناء اللاذقية.. خبير مصرفي: مؤشر جيد قربي لـ"الثورة": استثمار ميناء اللاذقية الجديد يعكس ثقة دولية وزيادة بالشفافية متجاوزاً التوقعات.. 700 ألف طن إنتاج سوريا من الحمضيات في 2025 الرئيس الشرع يلتقي بوزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل درعا: مطالبات شعبية بمحاسبة المسيئين للنبي والمحافظة على السلم الأهلي "مياه دمشق وريفها".. بحث التعاون مع منظمة الرؤيا العالمية حمص.. الوقوف على احتياجات مشاريع المياه  دمشق.. تكريم ورحلة ترفيهية لكوادر مؤسسة المياه تعزيز أداء وكفاءة الشركات التابعة لوزارة الإسكان