الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
الفن عالم من الجمال والخيال تدخل إليه فتشعر بالدهشة؛ ولكن هناك مَنْ يُعكِّر صفو الحياة وبهجتها ويبثُّ سمومه فيها؛ أما الفنان فيبقى كجوهرة تنير حياتنا وتبعث في نفوسنا الحبور.. لمعرفة حالة الفن بين الماضي والحاضر التقينا كوكبة من التشكيليين السوريين كي يُدلوا بآراء مختلفة بيضاء وسوداء حول الموضوع المقترح:
الفنان جمال العباس: كنت أعتقد ومازلتُ أنَّ لكلِّ زمن أشخاصه ومجالاته ومن ثم عطاءاته الجميلة أو المتعسِّرة. ولم أكن ميَّالاً للأخذ بمقولة الزمن الجميل لكن قرب المسافة بين ما عايشه جيلنا سابقاً في الفن التشكيلي والحالة الراهنة جعلني موقناً أنَّ زمننا أفضل مما عليه نحن الآن.. فالتشكيل كان رغم بداياته في سورية والمنطقة العربية بصيغته الحديثة وصعوده تحمله وتُبشِّر به شخصيات عُرفت بريادتها وجديَّة محاولاتها فتميَّزت بأخلاقية عالية وتصميم على العطاء وفرش القيم الجمالية والتذوّقيَّة لتوسيع دائرة الثقافة البصريَّة بحسِّ المكان، والانفتاح على معطيات العصر، والتأثير بها لخلق كيان فني في النحت والرسم والتصوير والغرافيك فيه رائحة المكان ومفردات المحبَّة وخصوصيتها. كان تعلُّق أساتذة الفن بطلابهم أو الطلاب مالكو الطاقة الفنية بأساتذتهم يرسمه الاحترام وجديَّة العطاء ورغبته بصراحة وإخلاص ووفاء ومحبَّة لا تعرف الغشَّ أو التحايل والمخادعة أو الربح المادي أو التجاوز، وكان الفنانون كباراً سواء أساتذة أم غيرهم أوَّل مَنْ يحضر المعارض المُقامة، وخاصةً للفنانين الجدد منهم يُهنِّئون ويُشجِّعون، وكانت المعاصرة فرصة للجميع للتعارف وبناء الصداقة والمحبَّة قبل مشاهدة الأعمال. ولازلتُ أذكر عند افتتاح معرض الخريف كيف كنَّا نبحث عن بعضنا ونلتقي بالعناق والقلب قبل مشاهدة أعمالنا، وكان حضور كبار الفنانين والأساتذة فرصة ثمينة للاستفادة من خبراتهم التي لا يحجبونها أو يبخلون بها حتى للمتقدِّمين إلى كلية الفنون الجميلة.. كانت شروطها الوحيدة الطاقة والموهبة الفنية ليس غير. ومع كل ما قدَّمت مازالت الدنيا بخير والفنان السوري والفن بعافية رغم الظروف الصعبة والقاهرة.
أما الفنان خالد جازية فقد أجاب: بدايةً علينا أن نتَّفق أولاً بأنَّ الفن التشكيلي الإبداعي سواء في الماضي أو الحاضر انطلاقاً للمستقبل له دور رئيس ومهم في تشكيل الوعي وإحساس مُعيَّن لدى المتلقِّي من خلال الارتقاء بالذائقة البصرية والسمو بفكره ووعيه وجمال إحساسه باعتباره النواة واللبنة الأساسية في بناء مجتمعٍ راقٍ فكرياً وأخلاقيَّاً.
وتابع قائلاً: عندما نتكلَّم عن الفن التشكيلي الإبداعي بما يحمل من سمات وخاصيَّة ومكوِّنات إبداعيَّة من حيث الفكرة وما تحمل من مضامين فكريَّة وقيم جماليَّة ومن خلال التكنيك والأسلوب المُستخدم لصياغة الفكرة ومعالجتها برؤية إخراجية إبداعيَّة على سطح اللوحة علينا ألَّا نفصل بين مكوِّنات النتاج الإبداعي اليوم فالمتلقِّي هنا مكوِّن رئيس ومهم في الثالوث المُتشكِّل من الفنان والعمل الفنِّي والمتلقِّي كعنصر مهم من عناصر نجاح النتاج الإبداعي تحت مظلَّة الحداثة كحركة فنية غنية ومتفرِّدة لها خاصيَّتها وحضورها اليوم. لكن السؤال هنا: هل استطاعت الحركة باتساع رقعة المشهد التشكيلي لديها أن تؤدِّي الغرض وخصوصاً في ظلِّ غياب الناقد الأكاديمي والمتخصِّص في تحليل العمل الفني باعتماده على أُسس وقواعد أكاديمية في تحليل أي عمل إبداعي والغوص في أعماق مضمون العمل وفكِّ رموزه من خلال دلالاته اللونيَّة ورمزيَّتها كي يستشفَّ قيمة الجمالية والفنية من خلال ابتعاده عن المزاجيَّة والمجاملات والمحسوبيات على حساب سويَّة العمل الفني والتي بدورها لا ترتقي بالذائقة البصرية لدى المتلقي بل على العكس تماماً تنعكس وتترك أثرها السلبي على فكره إحساسه لذلك عندما يتحوَّل الفن التشكيلي إلى تلوث بصري له آثاره السلبيَّة على الفرد والمجتمع يُصبح المشهد التشكيلي حالة هدم للفرد والمجتمع وليس حالة ارتقاء برهافة الإحساس والمشاعر وسمو الفكر وجماليَّاته وحالة تنمية وتطوير الوعي الخلاق لديه. للأسف اليوم ابتعدنا عن جماليات المشهد التشكيلي وحلَّت مكانه العبثيَّة والفوضى وعدم الاهتمام بالعمل الفني كعمل إبداعي له قدسيَّته وخاصيَّته يُداعب أحاسيس المتلقِّي ويُخاطب فكره ويهزُّ وجدانه. الفنان اليوم يستخفُّ بعقلية المتلقِّي ويتلاعب بأحاسيسه لذلك تحوَّل المشهد التشكيلي من مشهد يُقدِّم قضايا الإنسان وعلاقته الجمالية بالطبيعة بأدوات وأساليب خلاقة تبعث في النفس النشوة ومتعة الرؤية في جمال ما يقدّم من أفكار ومضامين إلى فن يُقدِّم تلوّثاً بصرياً هدَّاماً.
وثمَّن جازية السعي لتطوير أدوات العمل قائلاً: إنَّ الفن عموماً قد مرَّ ببعض المطبَّات إلا أن التشكيليين كانوا شغوفين في البحث عن ثيمات ومفردات جديدة ومبتكرة لتطويرأدوات العمل التشكيلي فأحدثوا مدارس فنية أصبحت فيما بعد مركزاً يُقدِّم المتعة والجمال، كما كان الفنان باختلاف شرائحه يؤمن بقضية ويدافع عنها من خلال بحثه المستمر والدؤوب عن أدوات جديدة وأساليب مُبتكرة بعيدة عن الابتذال والاستخفاف مثل أعمال الرواد، التاركين لنا إرثاً إبداعياً له بصمته ونكهته المتفرِّدة، إضافة إلى اتسام أعمالهم بالمتعة والجمال في صياغة أفكارهم ومضامينها والتصاقهم بهموم وطنهم وحضورهم في المناسبات كافة ليكونوا مبدعين وخلَّاقين فيها.
الفنان خلدون الأحمد قال: قبل أن يكون الفن لغة جمالية وغناءً بصرياً هو حالة ضرورية مجتمعية لنقل الرؤية للمشاهد عبر إحساس الفنان ومشاعره نحو الحالة الموضوع.
قديماً كان الفنان يُوثِّق أعماله بمواضيع معاشة فيدخل للعمل التشكيلي مكوِّناً المشهد بتفاصيل حاكها بأسلوبه وتعبيره بدقة رائعة؛ واليوم لم يختلف العمل الفني فلكل فنان رؤيته وأدواته وإن تغيَّرت الفترة الزمنية بالأدوات والقراءة للموضوع المقدَّم.. فالفنان ينقل مشهده ليوثِّق حالات الجمال عبر إيقاع لوني حديث بمفردات عمله كاللون وحضوره بقوة في الرسمة وإن اعتمد على مساحات اللوحة فهو يؤكِّد حضور التكوين من خلال إيقاع حركة اللون والفكرة المراد تنفيذها. الفن رسالة توثِّق ثقافياً حالات الحب، الجمال، الدهشة في المواضيع التي يسعى الفنان دائماً لرصد صورها، وإن اختلفت الأجيال فلكلِّ زمنٍ مواضيع ولون وتعبيرية خاصة صاغها الفنانون كلٌّ عبر مدرسته وطريقته وريشة إحساسه.
بدوره التشكيلي خالد حجار أجاب: إنَّ حال الفن بين الماضي والحاضر مرتبط بالمتغيِّرات والتطورات الحادثة خلال القرن الأخير، إذ تطوَّرت المدارس الفنية بسرعة لتواكب تطورات الأحداث فكانت الانطباعية والسريالية والدادائيَّة وغيرها؛ ولكن الأكثر أهمية على الإطلاق ما حدث في السنوات الأخيرة حيث استطاع الفن دمج المدارس القديمة كافةً والخروج ببوَّابات مفتوحة نحو الحداثة أو ما بعدها؛ لإخراج العمل الفني من إطاره التقليدي وارتقائه وملامسته الروح، مُتجاوزاً الحواس الإنسانية، كما استطاع الفنان دمج الخيال مع الواقع مع الماضي مع المستقبل، ومزج كلّ ذلك مع الحلم حتَّى أنه تجاوز الأبعاد الثلاثة للعمل الفني، وأدخل الزمن ضمن عجينة الفن فكان التطور المتسارع فيه له التأثير الأكبر في تحرُّر الفنون واتحادها مع الحلم والواقع في توليفة تُعالج الزمن.
من جهته الفنان بسام الحجلي «سريالو آرت» قال: تشكيليو سورية الروَّاد دمغوا الرسم بهويتهم الوطنية وطوَّروا الفن في المذاهب كافةً، كما استطاعوا تصديره إلى الخارج حيث كانت الظروف مواتية لهم في نهضة المستوى الفني والفكري، واستمرَّ تقدُّمهم قرابة مائة عام، فكانت أعمالهم ناجحة أثبتت اسم أصحابها عبر الزمن لأنها تُمثِّل مرآةً للوطن، وظهر تأثيرها في إبداع الأجيال الشَّابَّة فكانوا منفتحين على المدارس الغربية وتاريخ الفن الإنساني كي يُطوِّروا ويُقدِّموا الأفضل وتكون لهم بصمتهم وهويتهم الموجودة في متاحف العالم فقد تميَّزوا بمصداقيتهم وروحانيَّتهم وانتمائهم للوحة الفنية.
وأضاف: إنَّنا جيلٌ مطوِّرٌ ومُحدِّثٌ في الرؤية الفنية السورية رغم صعوبة الظروف الراهنة المؤثِّرة على أغلب الفنانين في وقتنا الراهن لا سيَّما تحكُّم بعض التجار بتصدير لوحات التشكيليين وتأخُّر الحالة المادية المُتسبِّبة بقلة المواد والألوان؛ لكنَّنا أصبحنا نتلاءم مع الظروف، مُقدِّمين تقنياتٍ جديدةً. وأعتقد أنَّ الفن الحديث أصعب بكثير من المرحلة التي خاضوها الروَّاد القدامى لأننا في حالة منافسة مع الذات والواقع.. منافسة مع الزمان والمكان كي نصل إلى عمل فني يليق باسم بالفنان السوري.
التشكيلي أشرف حقي رأى أنَّ الفن التشكيلي في الماضي كان أكثر انضباطاً؛ أما في الحاضر فنراه أكثر تفلُّتاً من قيود المدارس الفنية القديمة، إذ نلمح اتجاهاً للرسم التجريدي غير المُحبَّب كثيراً من العامة، فكلما كانت اللوحة سهلة الفهم والتفسير ومحتوية على رموز بسيطة وغنية في الحركة والانسجام بالألوان كانت أقرب إلى الناس دون الغوص في الأفكار الفلسفية المعقَّدة الصعبة الفهم والاستيعاب؛ لكن لكلِّ فنان حرية اختيار منهجه الفني ورؤيته الخاصة.
العدد 1175 – 23 -1 -2024