نقش سوريٌ… ندرة اليازجي

الملحق الثقافي:          

  لاننا نفتح ملف الحوار الثقافي حري بنا أن نشير إلى قامة فكرية مهمة ليس على مستوى سورية بل العالم في الدعوة إلى الحوار الثقافي والإنساني والحضاري، المفكر الراحل ندرة اليازجي الذي نقف عند بعض محطات حياته وفكره.
باحث وفيلسوف سوري ولد في بلدة مرمريتا في محافظة حمص عام 1934.
تركز اهتمامه على دراسة المؤلفات التي تبحث في القضايا السياسية أولاً، والمؤلفات التي وضعها باحثون اقتصاديون إنسانيون جعلوا من الاقتصاد علماً يؤدي إلى ازدهار المجتمع الإنساني ثانياً، ومع ذلك لم يجد ضالته المنشودة من تلك الدراسة، هذا لأنه كان يهدف إلى تلقيح علم الاقتصاد والسياسة بالقيم الأخلاقية التي ترفع الواقع إلى مستوى المثال، أي كما يجب أن يكون.
قادته دراسته للفلسفة السياسية إلى دراسة الفلسفة الأخلاقية التي قادته بدورها إلى دراسة المدارس الفلسفية المتنوعة، وتالياً قادته هذه الدراسة إلى التوغل في مضامين علم النفس عامة وعلم النفس التكاملي وعلم نفس الأعماق خاصة، وكان اهتمامه قد تحول إلى دراسة العلوم الإنسانية، فإنه اتجه إلى دراسة الأديان ومبادئ الحكمة المنتشرة في أقطار العالم، الأمر الذي ساعده على الاستزادة من معرفته بالثقافات والحضارات المتنوعة ومحاولة التوفيق بينها لكي تتآلف في كيانه على نحو تكامل أو توحيد، وفي الوقت ذاته وجه اهتمامه لدراسة الأساطير المتعددة ليكتشف القرابة القائمة بينها في هذا النطاق المعرفي.
ندره اليازجي: المشروع الفكري
يقول:
يتلخص موقفي الفكري- وهو مجرد مشروع نظريٍّ يتمثل في وجهة نظر فلسفية وعلمية وأخلاقية، سعيتُ، ومازلت أسعى، إلى تحقيقها- في المبادئ التالية:
محبة الإنسانية جمعاء، بغضِّ النظر عن الجنس واللون والعنصر والمعتقد.
توحيد نطاقات الفكر الإنساني ووجهات النظر العديدة في دراسة مقارنة ترمي إلى القيام بوحدة تأليفية بين الدين بمفهومه الروحي، والفلسفة بمفهومها الإنساني والمثالي، والعلم بمفهومه النظري والطبيعي والكوني.
تعمقٌ وتوسعٌ في دراسة القوانين الطبيعية والإنسانية-الاجتماعية بهدف الولوج إلى القوانين الكونية التي تشملها.
الشعور الكامل بالوجود، أي المعرفة التي تشير إلى وجود وعي كوني يشمل جميع المبادئ والقوانين.
التجربة النفسية أو الروحية المختبَرة التي تنتهي إلى عرفان يتجلَّى في تحقيق الشعور الأسمى بتكامل الوجود الإنساني والطبيعي والكوني.
واقع الحضارات والثقافات والإنجازات الرائعة مقولة تؤكد وجود تنوع ظاهري وحقيقة باطنية جوهرية واحدة وعقل إنساني جمعي شامل.
تمثُّل العالم والكون في نسيج واحد متداخل خيوط الحياكة.
العقل المنفتح والقلب المنفتح سبيل إلى لقاء الحضارات والثقافات وتفاعلها وإلى تآلف العقل الخاص مع العقل العام في قاعدة واحدة مشتركة بين العقول الفردية.
تأسيس بنية عقلية منفتحة ومكوِّنة تصلح لإجراء حوار بين بنات وأبناء الإنسان لقبول الآخر والاعتراف به وتتجاوز الأطُر المحدودة والمناهج الأحادية البعد.
الإعلان العالمي لـ»وثيقة واجبات الإنسان» التي تشتمل على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتدعو إلى تربية إنسانية تجعل من الواجب أمراً أخلاقياً وروحياً ملزِماً.
المثالية بوصفها تطويراً للواقع كما يجب أن يكون، أي التحول من الوجود إلى الوجوب.
السعي المثابر والهادف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية الملازمة لكرامة الإنسان وحريته الماثلتين في الوعي.
توطيد التفكير المنطقي الرامي إلى بلوغ محاكمة سليمة تحرر العقل من قيود الإشراطات العديدة التي تحول دون تطويره.
في هذا المنظور، أدركتُ أن ثقافات العالم وحضاراته تلتقي، التقاءً مباشراً أو غير مباشر، لتشكل مركزاً تتكامل فيه الوقائعُ الظاهرية والحقيقةَ الواحدةَ التي نعاينها ونحن نتوغل إلى أعماق الحكمة التي تتوطد عليها القاعدة الأساس للوجود الإنساني. وهكذا علمتُ أن شخصيتي مركز لقاء لجميع التيارات الفكرية والعلمية والأدبية والفلسفية والفنية والروحية والاجتماعية والاقتصادية التي تتجه من مراكز إشعاعها لتجتمع في كياني وتتآلف في وحدة الحقيقة، إذ ذاك أدركت أنني حصيلة لقاء فروع المعرفة المتآلفة في داخلي، مثلما أن الحضارات والثقافات هي روافد تصب في نهر الحضارة الإنسانية الذي يحمل تراث الإنسانية بكامله ليصب في محيط الوعي الكوني.
في هذا السياق الفكري، يمكن لي أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع الثقافي بدائرة تصدر عنها وتعود إليها إشعاعاتٌ عديدة هي التنوعات العديدة للروح الإنسانية. فإذا كانت الحياة، في ظاهراتها، واحدة، والعقل، في جوهره، واحدًا، والحكمة، في تجلِّياتها، واحدة، والعلم، في منظوراته، واحدًا، والروح، في كيانها، واحدة، فإنها تنبث وتتشتت عبر إشعاعاتها المتنوعة، لتعود إلى التآلف في دائرة الحقيقة الواحدة. وبالمثل، أستطيع أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع الثقافي والفكري بالضوء الذي يتشتت إلى قوس قزح: فالحق إن ألوان قوس القزح تمثل الضوء الذي تبدَّد أو تشعَّب إلى تنوعاته. فإذا استطعتُ أن أعيد هذه الألوان من خلال الموشور، الذي يتشتت الضوءُ عبره إلى تنوعات ألوانه، أجدها تعود إلى ما كانت عليه من اتحاد: إنها تعود إلى الضوء الذي جمع أنواع ألوانه في وحدة لا تنفصم هي حقيقة واحدة لا تناقُض فيها.
في هذه الرؤيا، تحافظ الأمةُ أو الأممُ على مشعلها الحضاري-على إبداعها الثقافي والعلمي وعلى عمق خصوصيتها وقدرتها على الامتداد إلى الآخر-ليضيء هذا المشعلُ في المحيط الروحي الذي يغلِّف الوجود الإنساني كخلفية تسجَّل عليها ما تدوِّنه الشعوبُ والمجتمعاتُ والأفرادُ من مآثر وإنجازات حضارية وثقافية وعلمية. وعلى هذا الأساس، تكون الإنسانيةُ جامعةً شاملة، وكذلك الإنسان: فهي تمتد وتتسع إلى الكون المادي والروحي، وشمول الإنسانية يجعل البشرية بأجمعها أسرةً واحدةً تنعم في نطاق محبة الكل الشامل- فإذا الناس جميعاً إخوة يلتقون في كيان الإنسان الواحد- بوجودٍ واحدٍ وصورٍ وأشكال كونية متعددة ومشخَّصة على صعيد الظاهر، لذا كانت المحبة تعني أن شمولها العالمي، الإنساني والجامع، إنما ينطوي في مبدئها الأعظم بأن جميع الناس، على اختلاف أعراقهم وألوانهم وأممهم، يؤلِّفون جسما واحداً- مادةً واحدة وروحاً واحدة لا تتناقض في ذاتها. وهكذا تتحقق الإنسانية في شعور الكائن الإنساني بعالميته وشموله، والحق إن آمال الإنسان المتصاعدة من أنحاء العالم كلِّه تشير إلى وحدة الوجود الإنساني وإلى تحقيقه في شعور واحد متكامل، جميع الناس يفكرون، يشعرون، يحسون، يتذكرون، يتخيلون، يتصورون، يدركون، إلخ، ضمن مبدأ واحد متنوع الظاهرات.
إن مبدأ عالمية الإنسان مبدأ يحثنا على احترامه وإعلاء شأنه: فلا يحق للإنسان أن يعتدي على إنسانيته أو إنسانية غيره، ولا يحق له أن يستغله أو يحقد عليه أو يكرهه أو يرذله، والإنسان الذي يتصف بالصفات السلبية يقترف شراً ضدَّ إنسانيته هو. فالإنسان الذي يكره نفسه يكره الآخرين؛ والإنسان الذي يكره غيره يكره الإنسان كمبدأ الوجود المشخَّص والمجرد؛ والإنسان الذي يكره غيره يكره المطلق الذي هو الخير المطلق والمعرفة والحقيقة والكمال والوعي الكوني.
إن عالمية الإنسان، كونه ينتمي إلى عالم واحد، والأخوة الإنسانية لا تتعارضان مع اجتماعيته، كونه ينتمي إلى وطن- وهذا لأن اجتماعية الإنسان هي إنسانيته، ولأن الإنسان يمثل المركز الذي يشع في اتجاهات ثلاثة:
-أولاً: من كيانه إلى ذاته.
-ثانياً: من كيانه إلى المجتمع الذي ينتمي إليه.
-ثالثاً: من كيانه إلى العالم.
في الاتجاه الأول، يشع الإنسان وفق قاعدة أخلاقية فطرية تعبِّر عن ناموس كونيٍّ روحيٍّ غير مكتوب بالحرف، نُحِتَ فيه منذ بداية وجوده في هذا العالم. لذا كان عليه أن يحققه أولاً. ومتى حقَّق هذا الناموس الكوني غير المكتوب بالحرف، استطاع أن يشع في الاتجاه الثاني، وهو المجتمع. أما الاتجاه الثالث، فإنه يتجلَّى في امتداده إلى العالم والكون. وهكذا يتجاوز الإنسان الواعي مركزيةَ الأنا إلى مركزية الأسرة والعائلة، ثم إلى مركزية الفئة والمجتمع، ثم إلى مركزية العالم، لينتهي إلى مركزية الكون.
تراودني هذه المقولة وأنا أتعمق في تأمل نفسي وفهمها؛ أتأملها، وأتأمل الكون والكيان الاجتماعي، وفي هذا التأمل الثلاثي البعد، أتساءل: كيف يمكن لي أن أكون كيانًا شاملاً؟ كيف يمكن للكون أن يكون شاملاً؟ كيف يمكن للمجتمع أن يكون شاملاً؟ ولا يدهشني أن أجيب بشمول الكون، وشمول الحياة، وشمول الكيان، وشمول الإنسان، وشمول المجتمع، وشمول المادة والطاقة، وشمول المعرفة. فإذا كانت الحقيقة السامية الشاملة غاية في ذاتها، تتجلَّى في الكل ومن خلال الكل، وفي الإنسان ومن خلاله، وفي المجتمع ومن خلال اجتماعيته التي هي إنسانيته، كانت العالمية أو الشمول-الكل- المبدأ الفاعل في الكون عامة وفي عالمنا الأرضي خاصة: القوانين العلمية، على سبيل المثال، واحدة في العالم.
إذا كان الشمول مبدأ الكون الفاعل، فلا بدَّ لي أن أجد التفسير الموضِّح للكثرة أو التعدد الماثل في عالمنا.
ثمة تعددية في وجودنا، وثمة وحدة أيضاً والوجود، بكل تأكيد، تعددية في وحدة، كثرة في واحد، والمشكلة الرئيسة التي تطرح ذاتها تكشف عن ذاتها في سؤال يوجِّهه كل ذي عقل مستنير: كيف توجد الكثرةُ في الوحدة؟
إن تعارُضات الوجود الظاهرية الكبرى تبدو في حالاتها الثلاث وكأنها تشير إلى هذه الحقيقة:
من مؤلفاته
المؤلفات العربية
رسائل في حضارة البؤس 1961
الاشتراكية ومفهوم العدالة 1963
النقد الفلسفي للماركسية 1965
بحوث فلسفية 1967
رد على التوراة 1969
رد على اليهودية واليهودية-المسيحية 1971
مقالة في العقل والنفس والروح 1973
دراسات في فلسفة المادة والروح 1980
دراسات في المثالية الإنسانية 1981
تنوع الحضارات ووحدة الفكر الإنساني 1985
تأملات في الحياة النفسية والاجتماعية 1988
فلسفة الإنسان الثائر 1988
رسائل في مبادئ الحياة 1991
المبدأ الكلِّي: لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث 1995
الطريق إلى الحوار 2003
هندسة الروح: أشكال صوفيا 2005
               

العدد 1175 – 23 -1 -2024

آخر الأخبار
بقيمة 2.9مليون دولار.. اUNDP توقع اتفاقية مع 4 بنوك للتمويل الأصغر في سوريا حمص.. حملة شفاء مستمرة في تقديم خدماتها الطبية د. خلوف: نعاني نقصاً في الاختصاصات والأجهزة الطبية ا... إزالة مخالفات مياه في جبلة وصيانة محطات الضخ  الألغام تهدد عمال الإعمار والمدنيين في سوريا شهادة مروعة توثق إجرام النظام الأسدي  " حفار القبور " :  وحشية يفوق استيعابها طاقة البشر  تفقد واقع واحتياجات محطات المياه بريف دير الزور الشرقي درعا.. إنارة طرقات بالطاقة الشمسية اللاذقية.. تأهيل شبكات كهرباء وتركيب محولات تفعيل خدمة التنظير في مستشفى طرطوس الوطني طرطوس.. صيانة وإزالة إشغالات مخالفة ومتابعة الخدمات بيان خاص لحفظ الأمن في بصرى الشام سفير فلسطين لدى سوريا: عباس يزور دمشق غدا ويلتقي الشرع تأهيل المستشفى الجامعي في حماة درعا.. مكافحة حشرة "السونة" حمص.. تعزيز دور لجان الأحياء في خدمة أحيائهم "فني صيانة" يوفر 10 ملايين ليرة على مستشفى جاسم الوطني جاهزية صحة القنيطرة لحملة تعزيز اللقاح الروتيني للأطفال فيدان: الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تزعزع الاستقرار الإقليمي الجنائية الدولية" تطالب المجر بتقديم توضيح حول فشلها باعتقال نتنياهو قبول طلبات التقدم إلى مفاضلة خريجي الكليات الطبية