الثورة – رشا سلوم:
لأن الثقافة الركن الأساس في أي مجتمع كان لابد من العمل على بنائها وتعزيزها وتطويرها بكل المعايير، لأنها كما يقولون جدار الصد الأول, وقد غدا مصطلح الثقافة عالماً بلا حدود تعمل الدراسات الاجتماعية على تحليلها وتفكيكه، ومن ثم إعادة بنائه.
كتاب مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية, تأليف: دنيس كوش من الكتب الهمة التي ترجمتها المنظمة العربية للترجمة, ترجمه منير السعيداني, وتمت دراسته في العديد من المواقع والصحف نقف عند مفهوم الثقافة وتجديد مفهومها، كما جاء في عرض ليلى عبد الحميد, لنشير بعدها إلى ترجمة جديدة لهذا الكتاب صدرت في دمشق مؤخراً.
يقول كوش: أما حول “تجديد مفهوم الثقافة” فيقول: لا توجد من جهة ثقافات “نقية” ومن جهة أخرى ثقافات “خليط”، كل الثقافات وبفعل ظاهرة التماس الثقافي الكونية، هي ثقافات “مزيج” بدرجات متباينة تصنعها الاستمرارات والتقاطعات إن ما يؤكد عليه (باستيد) من استمرارية ثقافية معينة غالبًا ما يخضع للأيديولوجيا أكثر مما يخضع للواقع، إن الاستمرارية المزعومة يتم التأكيد عليها، بصورة خاصة، بقدر ما يتضح التقطّع بجلاء في الوقائع: في لحظات القطيعة يكون خطاب الاستمرارية “أيديولوجيا تعويض”.
يبدأ الكاتب بإعادة تأكيده أنّ: الثقافة إنتاجٌ تاريخي، أي بناءٌ ينخرط في التاريخ، فهي ليست معطىً موروثًا يُتناقل على ما هو عليه، وإنه حتى الجماعات الاجتماعية المُهيمن عليها، لا تفتقر إلى موارد ثقافية خاصة.
وفي حديثه عن “التراتب الثقافي” يقول الكاتب: لم يخطئ كارل ماركس ومثله ماكس فيبر بتأكيدهما أن ثقافة الطبقة المهيمنة هي، دوماً، الثقافة المهيمنة، واضحٌ أنهما لا يزعمان بقولهما هذا أن ثقافة الطبقة المهيمنة لها نوع من التفوق الكامن في ذاتها، أو أن لها قوة انتشارٍ تأتيها من “جوهرها” الخاص، وتجعل منها قوةً مهيمنة على الثقافات الأخرى “طبيعياً”. بالنسبة إلى ماركس، كما بالنسبة إلى فيبر، تتوقف القوى النسبية الخاصة بمختلف الثقافات، خلال التنافس الذي يواجه بينها، على القوى الاجتماعية النسبية الخاصة بالجماعات التي تسندها.
إن الحديث عن ثقافةٍ مُهيمِنة أو عن ثقافةٍ مُهيمَنٍ عليها ضرب من المجاز إذ أن ما يوجد، واقعًا، هي جماعات اجتماعية تربط بينها علاقات هيمنةٍ وتبعية. فليست الثقافة المهيمَن عليها، من هذا المنظور، وبالضرورة، ثقافةً مستلبة، تابعة كليًا.
إنها ثقافةٌ لا يمكنها، في مسار تطورها، إلّا أن تأخذ في الحسبان الثقافة المهيمِنة، ولكنها قادرة، إلى هذا الحد أو ذلك، على مقاومة الفرض الثقافي المهيمن.
ترجمة جديدة
وفي الترجمة التي صدرت عن دار نينوى يرى المؤلف أن مفهوم الثقافة ملازم للعلوم الاجتماعية، وهو ضروريّ لها إلى حدٍّ ما، للتفكير حول وحدة البشرية من خلال التنوّع، بشكل يختلف عن التفكير المستند إلى البيولوجيا.
ويبدو أن هذا المفهوم يقدّم أكثر الأجوبة إقناعاً على عن سؤال الفارق بين الشعوب، وذلك لأن الجواب «العِرقي» أخذ يفقد من قيمته شيئاً فشيئاً مع تطور علم الوراثة البشري.
الإنسان بالأساس كائنٌ ثقافي، وعملية التحول الطويلة إلى إنسان التي بدأت قبل عشرة ملايين سنة، انطوت في جوهرها على الانتقال من التكيّف الوراثي مع البيئة الطبيعية إلى التكيّف الثقافي.
وعبر مسيرة ذلك التطور الذي أدى إلى نشوء الإنسان العاقل أي الإنسان الأول، تراجعت الغرائز تراجعاً كبيراً، وحلّت الثقافة تدريجياً محلّها وهو التكيّف الذي تمكّن الإنسان من السيطرة عليه.
وقد تبيّن أن هذا التكيّف أكثر فاعلية من التكيّف الوراثي لأنه أكثر مرونةً وأسهل وأسرع قابلية للانتقال. والثقافة لا تتيح للإنسان لا التكيّف مع بيئته فحسب، بل تتيح له أيضاً إمكانية تكييف هذه البيئة لحاجاته ومشروعاته، بمعنى آخر، الثقافة تجعل تغيير الطبيعة أمراً ممكناً.
مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية” تأليف: دوني كوش، ترجمة: الدكتور قاسم المقداد، من إصدارات دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع.