الملحق الثقافي- علم عبد اللطيف:
في عصر الشفاهية.. كما يقول الباحثون.. كان الشعر يحفظ في الصدور.. وتتناقله الألسن.. كان ثمة فئة مهتمة بالشعر. الرواة.. أشهرهم حماد الراوية.. وما إن يتم إلقاء القصيدة في منبر.. حتى يحفظها هؤلاء.
وهناك أدوات وعناصر في القصيدة الكلاسيكية تسهل حفظها.. القافية والوزن.. وكثير من العناصر الأخرى الجمالية في البيت الشعري.. كرد العجز إلى الصدر.. والطباق والجناس والتورية وغير ذلك.
الحفظ إضافة لكونه أداة التوصيل الوحيدة بين الناس.. كان له دور مهم في بناء الذائقة الشعرية أولاً.. وفي إتقان أدوات النظم والإيقاع..وتنشأ ملكة تذوق الموسيقا من حفظ وترديد القصيدة.. بحيث يصبح الإيقاع بعض ذاكرة الأذن. هذا قبل تقنين العروض والتفعيلات الفراهيدية.. وتبدو عملية الحفظ ضرورية في صناعة القصيدة إذا اعتبرنا أن المسألة تتطلب قوننة الإيقاع والقافية. وعدد التفعيلات.
في عصر الكتابة.. اختلف الأمر كلية.. فليس من سبب يقتضي حفظ المادة الأدبية.. طالما هي مكتوبة ومحفوظة في كتاب أو صحيفة.. وأساساً المادة الكتابية المنتمية إلى عصر الكتابة والنشر والتوزيع.. هي مختلفة كلية عن قصيدة العصر الشفاهي من حيث التركيب وتعدد الأبعاد والدلالات.. مما يحمل بعض الغموض الذي يرجع إلى العمق وتعدد الأبعاد.. ويتطلب الأمر قراءة المادة أكثر من مرة للإلمام بها.
مرحلة الكتابة أتاحت مسألة غاية في الأهمية للكتاب.. هي التفكير بالكتابة.. هذه التي تصنع مسارات وأنساقاً غير معدة سلفًا في ذهن الكاتب.. يرجعها البعض إلى دلالات اللفظة.. وإحالاتها.. مما يستتبع الانسياق خلف الدلالات والإحالات.
إذن.. إضافة لكون الحفظ لم يعد أمرًا مهماً أو واجبًا.. أصبح من الصعوبة بحيث يستحيل حفظ أنواع المواد المكتوبة. كالدراسات والنقد.. وغيره.
يقول البعض.. إن المادة المكتوبة.. هي غير معدة أصلاً للمنبر.. هذا الذي يعني العودة لمرحلة الشفاهية.. من صوت القارئ إلى أذن المتلقي مباشرة.. في حين تبدو الكتابة أكثر تعقيداً.. تشرك البصر وتنقل المعنى والدلالة بصمت إلى مركز التحليل والفهم في الدماغ.
بين الشفاهية وبين الكتابة مسافة صنعها الزمن وبين الحفظ والتصفح والقراءة.. ولو لأكثر من مرة.. تطور الكتابة والقراءة ذاتها في سيرورة الحداثة.. التي تشرك المتلقي في إيجاد معنى خاص به.. في الشعر.. وفي الرسم والمسرح.. وكل أنواع الكتابة. من هنا تحديدًا تبدو المناهج التعليمية.. لم تستطع تقبل فكرة الاستغناء عن الحفظ.. بقيت في حلقة تحفيظ المواد.. وإن كانت المناهج نفسها تنتمي إلى أوليات تحديثية في العلوم كافة.. أهو الخوف من إلغاء تقليد تاريخي في تناول المادة.. أو هو عدم القدرة على الانسياق في مسألة الاستيعاب الداخلي الذهني.. وهو غاية المناهج حقيقة.. أو عدم إعداد أدوات ووسائل امتحانية تتطلب استعداداً للدخول الكامل في عالم الكتابة.
العدد 1180 – 5 -3 -2024