يزداد الحديث في هذه الأيام عن قرب السماح باستيراد السيارات الكهربائية، دون أن نلمس أي قرار أو تصريح رسمي يحسم الجدل حول هذا الأمر الذي شكل ارتياحاً عند البعض، وقلقاً متزايداً عند البعض الآخر.
والقلق والارتياح مرتبطان سوياً بفكرة واحدة هي انخفاض أسعار السيارات المُحتمل في السوق إزاء ذلك، فالذي يمتلك سيارة اليوم ينوف سعرها عن عشرات ومئات الملايين من الليرات السورية، يعتريه القلق إن انخفضت الأسعار، فهو يحسب نفسه بذلك سيُمنى بخسائر باهظة، في حين أن انخفاض الأسعار قد يتيح المجال لمن لا يستطيع امتلاك سيارة اليوم أن يصير قادراً على ذلك فعلاً .. وهؤلاء هم الذين يشعرون بالارتياح طبعاً.
وباعتبارنا – والحمد لله – لسنا من هؤلاء ولا من هؤلاء، لا حالياً ولا على المدى المنظور، فالعديد من الأصدقاء يعلمون أن سيارتي سرقتها العصابات الإرهابية أثناء هجومها على مدينة عدرا العمالية، وكادت أن تسرق حياتي أنا أيضاً، ففرحتُ بنجاتي ونسيتُ السيارة، وكان لا بد من الإمعان في النسيان بعد أن شهدت أسعار السيارات هذا الارتفاع المذهل، إذ لم يعد يفيد التذكّر بشيء فكان النسيان – أو اصطناعه – هو الأسلم والأجدى، إذ لا داعي للخوض في المستحيلات.
باعتبارنا كذلك سنقف على الحياد من مشاعر القلق والارتياح التي تعتري المالكين والطامحين، لنشير إلى واحدة من الفرص الذهبية التي نبرع دائماً بهدرها، ولم تستطع قساوة كل الظروف التي مررنا بها .. ولا نزال نمرّ، أن تخترق جدار الهدر هذا، وتُحدث ولو ثغرة واحدة فيه تكشف ذلك الذهب المهدور، فما لنا وما للظروف .. ؟! وما لنا وما لتعب القلب الناجم عما يمكن أن ينتج عن تلك الثغرة من ابتكار منظومة اقتصادية محفزة ومشجعة لتصنيع مثل هذه السيارات هنا في البلاد ..؟!
نعم تصنيع بكل معنى الكلمة، وليس مجرد تطبيق وفك وتركيب، ففي بلادنا طاقات تصنيعية خلاّقة كامنة ومقيّدة بسلاسل المنع من اختراق الجدار، يحثونها على القفز فوقه أو اختراقه فيما هم يشدّون من وثاق السلاسل .. فما هي هذه الطاقات ..؟!
لقد ذكرتها غير مرة أنني تابعتُ منذ نحو ثلاثين عاماً تحقيقاً صحفياً له علاقة بقضية فتل محركات السيارات، وهذا الفتل لا يستطيع أي أحد أن يعطيني جواباً شافياً بشأنه إلا بعض الصناعيين الماهرين في حلب، فسافرتُ إلى حلب أملاً بالحصول على جواب، ومن مكانٍ إلى مكان أرشدوني إلى ورشة (العم آرتين) فما إن استفسرتُ منه حتى أعطاني الجواب الحاسم فوراً الذي قطع عندي الشك باليقين.
وبعيداً عن تفاصيل القضية نظرتُ إلى العم آرتين وهو منهمك بإصلاح إحدى السيارات.. أتأمّل بدلته الزرقاء المموّجة بالنفط والشحوم والغبار، ووجهه الجميل الذي حفرته أخاديد السنين ويتصبب عرقاً .. وسألته : كيف عرفتَ ذلك بهذه السرعة ..؟ نظر إليّ مبتسماً .. نفض الغبار عن جوانب بدلته ودعاني للجلوس على كرسي وصبّ كأسين من الشاي وجلس بجواري ليحدثني – بلهجته الحلبية الحلوة المختلطة مع اللكنة الأرمنية الجذابة حيث يُذكّر المؤنث ويؤنث المذكر – عن خبرته العالية ليس فقط بإصلاح السيارات، وإنما بقدرته الفائقة على تصنيعها أيضاً من بابها إلى محرابها، وأنه لو يسمحوا له بذلك التصنيع لكان قادراً على منافسة الكثير من الشركات في العالم، وبماركة سورية لا تُضاهى، ولكن مع الأسف هذا ممنوع قانوناً وسقفنا هذه الورشة.
إنه لأمرٌ جلل يحزُّ بالنفس كثيراً أن يكون القانون مانعاً للإبداع والتفوق، وأن لا نكترث باستثمار مثل هذه الطاقات الخلاقة والعمل على تحفيزها بمنظومة اقتصادية حقيقية وجادة تدفعها أكثر فأكثر لفتح الثغرات بتلك الجدران الصماء والتحليق عالياً بأجنحة منفردة وعقلٍ منفتحٍ حر وبصرٍ وبصيرة بلا حدود..!

السابق
التالي