فاطمة بديوي.. شاعرة تناغي الحس القومي

الملحق الثقافي- نجاح الدروبي:
أطلقَتْ قيثارةُ العرب صرختها الصادقة نصرةً للأرض العطشى لقطرات الحرية، ثمَّ تركَتْ مسرح الحياة وشرعت قصائدها تُنير الخُطا لتكون كالسيل الجارف لكلِّ لئيمٍ اغتال ابتسامة الأبرياء وراح يُصوِّب شفاه قاذفاته باتجاه المزيد من الأراضي العربية المقدَّسة، أما الشاعرة فتأوَّهت وتأوَّهت وتوجَّعت وتلوَّع قلبها حُرقةً على فلسطين حتى انخرطت في العمل الفدائي، ودفعها التزامها وانتماؤها القومي للتطوّع في جيش الإنقاذ الفلسطيني عام النكبة عندما أُعلن عن أسبوع التطوّع بقيادة البطل العربي فوزي القاوقجي؛ وكانت حينها أمٌّ لطفل عمره سنة وأول امرأة تلتحق بالعمل المقاوم.. إنها الأيقونة السورية فاطمة بديوي المعروفة كشاعرة رومانسية وكاتبة مسرح للأطفال ومؤسسة أول روضة أطفال في مدينة حمص… ويوم 20 حزيران عام 2007 يُصادف ذكرى رحيلها، بعد أن تركت إنجازاتها الجريئة المُتمثِّلة بتأسيس مدرسة خاصة لرياض الأطفال في مدينة حمص عُرفت باسم «حضانة روضة الأطفال» عام 1955، وأتى العام التالي 1956 لتؤسِّس أول مسرح مدرسي، إضافة إلى تأسيسها أوَّل فرقة تراثية للفنون الشعبية (فرقة السماح والفنون الأندلسية والشعبية) والتي اعتبرت الفرقة الأولى لهذا الفن في سورية، كما كتبت لأبي الفنون المسرح العديد من النصوص.
فاطمة بديوي شاعرة رقيقة حمويَّة المولد حمصيَّة النشأة، رأت النور في حماه عام 1929 وانتقلت للعيش في حمص عام 1938.. لُقِّبَتْ ألقاب كثيرة منها: (قيثارة العرب، قيثارة الميماس، شاعرة العاصي)، ونالت العديد من الجوائز والكؤوس الفضية والأوسمة وشهادات التقدير.
من أهم آثارها الشعرية: (أغاريد الطفولة، دموع تحترق، العشق القدسي 1993، صدى الحرمان 1998، منارة المجد، همس الملائكة)، وسيرة ذاتية حملت عنوان: (ظلال لا تغيب)
«الأنثى العربية» هي إحدى قصائدها المنشورة ضمن ديوانها «العشق القدسي»، والصادرة عام1991، وهي قصيدة أدبية، عبَّرت الشاعرة فاطمة بديوي من خلالها عن صرخة الصدق الموجودة في نبرة صوت المرأة الرافضة للواقع الذي وضع إطاراً من الغواية والنزوة لوجودها، لذا أنشدت:

لسْتُ أنثى أنا لا أغوي ولكن أوجدتني الســــــماءُ رمز البقاء
أنا ما كنْتُ في المجالس كأساً لارتشــــــــــافٍ أو نزوةٍ رعناء
صنعوا القيدَ من عقيقٍ وماسٍ زركشوا الثوبَ من صغار الإماء
أثمرت تجربتها الشعرية منذ أربعينات القرن الماضي مجموعة من الدواوين الشعرية فتفوَّقت على شعراء جيلها رغم أنها قرضت الشعر بالسليقة؛ فأتت قصائدها موزونة بعيدة عن التكلُّف مقرونة بالخيال المُجنَّح والفكر السديد وهو ما نستشفُّه في مرثيَّاتها الرائعة.
لم تأتِ تسميتها بقيثارة العاصي عبثاً فالشعر الرقيق يناغي الحس القومي، ويستنهض الهمم لتحرير فلسطين وبناء الوطن ..
فاطمة بديوي جزء من تاريخ الوطن السوري، والقارئ لا يستطيع في شعرها من بداياته الأولى أن يُميِّز الأنا من الآخر فهما عندها شيء واحد، إن اهتزَّ الوطن اهتزَّت فاطمة بديوي واحترقت دموعها، وإن حلم حلمت.
من بوحها الخاص ينهل القصيد الشعري تعابير لوعتها وحزنها لرحيل الماضي السعيد المليء بأجمل اللحظات وأروع الذكريات.
لكن استشرافها للمستقبل أمل وتفاؤل لأنها مزيج من أحاسيس كلها تنبض بالحنان الدافئ والحلم العظيم.. وحلمها يتجلَّى بالانتماء الصادق والحب الصافي لوطنها سورية وللأمة العربية.. إحساس يخرج من الدفق الإنساني، وكأنَّ حلماً تردَّد في بوحها الشعري حيث مدارج عالمها النفسي؛ وتمرُّدها وكفاحها من أجل فلسطين.. أنشدت متسائلةً عن أطفال الحجارة المحرومين من تقديم الهدايا لأمهاتهم:
أمَّاه أمَّاهُ يا أغلى الأناشيد يا نغمةَ الحبِّ في أحلى الأغاريد
ترحَّل العامُ وانسلَّتْ أواخرُهُ على الزمانِ ولاحَتْ طلعةُ العيد
ماذا أعدَّ لنا هذا الجديد؟ وما في فجرهِ اليوم من تلكَ التقاليد
أعنده لعبةٌ يلهو الصغارُ بها ككلِّ عامٍ مضى من غيرِ تجديد
أم أنَّهُ عادَ عن إلهائِنَا وأتى بما يَعِدُ لتصويبٍ وتسديد
أمَّاهُ ليس كما بالأمسِ كان لنا يُحيي القلوبَ بأفراح ويعيد
أما سمعت بأطفال الحجارةِ في قدسِ العروبةِ أحفاد الصناديد
هناك أحلى الهدايا الغاليات لدى أب وأم وأبناء من الصِّيد
هناكَ صوَّتَ كلُّ ابنٍ لوالدة رويد حبّكِ لا عيد لمصفود
هذا اللئيم الذي اغتالَ ابتسامتنا لم يكفه الصفع إلا بالجلاميد
مرَّت سنون ومازالتْ مطامعُهُ رعناء ما بينَ تهديد وتبديد
في النداء الخاص بين الشاعرة وأمها ما يُظهر الواقع المُكبَّل في سياق الاحتلال الغاشم لفلسطين من خلال الحوار، الواضع باقة الاستفهام ليجد الجواب في الخطاب عبر الخاتمة المُجسِّدة لبطولات الماضي وأمجادها اليعربية مُنشدةً:
فأينَ تلك البطولات التي رفعت
أمجادنـــــا بنودها في جبهـــة البيد
وأينَ ذاك الفـــداء اليعـــربــيّ
وما أعطى العروبة من مجدٍ وتخليد
ومن علامات الحزن الأخرى المتَّسمة بها التجربة الوجدانية الذاتية بعمق في شعر فاطمة بديوي توقها للالتحاق بالرجل المثال الذي لا سبيل إليه، كونه قرين الخيبة والفرديَّة المعذَّبة الواردة بشكل جلي في ديوانها «صدى الحرمان» المصوِّر لمدى لوبان الذات المنفتحة وراء الآخر للتوحُّد معه دون وجوده، وبذلك يكتسب عاطفة إنسانية سامية لها طابع شخصي تتفرَّد به الشاعرة عن غيرها من الشاعرات.
ومن أهمية عملها الأدبي ما يوقظه في أرواح القرَّاء من مشاعر عامرة بالطهارة في محراب المعاناة بعد متعة مطروحة في أشطر الأبيات، بحثاً عن قلب دافئ ينهل من نبع الحبّ الصافي أسمى المشاعر وينعم بظلاله فيسبح بين الأفنان مختاراً الندى والعبير الفوَّاح في أرجاء الطبيعة الساحرة.
ومطالعتنا للديوان تجعلنا نستشفُّ مقدار جمعها بين الأصالة والمعاصرة، فالشاعرة تحتفل بنظام الشطرين تركيباً للبيت الشعري، كما تهتمُّ بانتقاء ألفاظها مستخدمةً الصور القديمة المعروفة المنغمسة في الراهن والمتحوِّل؛ دون أن تميل غالباً إلى الإيجاز والتكثيف والغنائيَّة وإنما تلجأ للأبحرالطويلة المتميِّزة بالرصانة والجزالة والفخامة دالَّةً على شخصيتها الهادئة ومدى موهبتها الشعرية وثقافتها العميقة المستوحاة من عيون الشعر العربي ومن أمهات الكتب، متأثِّرةً بالكبار أمثال: «زهير بن أبي سلمى، عمر بن أبي ربيعة، المتنبي، وغيرهم من فحول الشعراء. ونلمح في قصيدة «أما آن» تفعيلات من البحر الطويل المندغم في البحر الكامل ضمن وحدة عضوية متينة تجعل البيت الشعري مرتبطاً بما بعده خدمةً للمعنى، وإفصاحاً عمَّا يعتلج في نفس الشاعرة من خفايا:
في متحف الأمس في مستودع الأثر
في مجمع الغابر الماضي من الذكر
في ملتقى زمر الأجيال ســــــــاكنة
بلا كلام ولا ســـــــــــمع ولا بصر
هتفت والنفس عما مرَّ تســــــــألني
ســــــــــؤال طفلٍ عن الأيَّامِ والكبر
الأبيات الثلاثة مرتبطة مع بعضها البعض بوحدة عضوية للتركيز على المكونات الدلالية والمقومات المعنوية: «ألم، حزن، اختناق، تساؤل، استنكار»؛ أكثر من الانشغال بالشكل.. ومن الملاحظ أن شبه الجملة المُتكرِّرة كصياغة منحت الأبيات حياة وحركة وموسيقا مُعبِّرة تلائم الحالة النفسية المُعاشة، كما منح الحوار الداخلي والحديث مع النفس دلالة على انقطاع التواصل مع الآخر، مضيئاً الذات الشاعرة المأزومة من خلال وصف حركتها وصفاً مختزلاً معاصراً.. أنشدت موظِّفةً شعرها لخدمة الصراع الدائر في نفسها:
ويقولُ بعدَ تأمُّلٍ.. وتأمُّلٍ وتأوّهٍ… وتوجُّعٍ… وتذلُّلِ
الأفعال الدلالية للحزن بصوره المختلفة تنتج مفعولاتها على نحوٍ بارز وعميق في شعر فاطمة بديوي، ما يجعل مستوياتها التكوينية واحدة في شعر المعاصرة والحداثة.
أما الصورة الشعرية فمستلهمة من التراث بنسبة فائقة، تأثُّراً بتراكيب ومفردات الشعر العربي في العصر العباسي، كما نقرأ تحكيماً للدهر في الشأن الحياتي تأثراً بأسلوب الشعر الجاهلي حيث قالت: «فهل الحكاية سوف تبقى مثلما صيغت؛ أم الأيام سوف تحكم؟».
فمثل هذا الاحتكام يهدف إلى التسليم للدهر باعتباره الفاعل الأول.. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: إنَّ الشاعرة الراحلة قد اتجهت لكتابة الشعر الحر أيضاً باستخدامها الرمزية الجادة في قصيدة «بين النوارس والزعانف» بقولها: «أركض/ الحيتان تعدو.. تختطف زهو القصيدة/ تلتهم نبض الوليدة/ فأنا يا شطآن وحدي.. وحدي امتطي متن السفينة».
الأسلوب الحكائي المثيروالنبرة الدرامية والتعبير عن الموضوع بالرمز.. كلها أجزاء تتفاعل في الإبداع الشعري لتكوِّن نسيجاً متآلفاً، أنيقاً، وشيِّقاً للمتلقِّي.. ويبقى كلامٌ كثير عن نصوص (البديوي) تعجُّ بمشاعر إنسانية منسكبة من ذات شاعرة تعرَّضت لظلم الكاتب الرجل وحيله الكثيرة كي يُبرز طريقة تميِّزه عنها؛ لكنّها تجاوزت فكره وأنتجت إبداعاً أدبياً شكَّل جوهرذاتها ومبادئها.

العدد 1195 –2 -7-2024        

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم