الثورة- نور جوخدار :
قال الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول عام 1963: “إن الأسلحة النووية الأميركية هي الضمانة الأساسية للسلام العالمي… ولكنها لا تستجيب بالضرورة في الوقت المناسب لجميع الاحتمالات المتعلقة بأوروبا وفرنسا، وبالتالي قررنا: تجهيز أنفسنا بقوة ذرية فريدة من نوعها”.
هذا الكلام الذي اعتبره المراقبون قبل 60 عاماً “كبرياءً ديغولياً أو أنه منطقاً إستراتيجياً غير رصين”، يأتي اليوم وكأنه نبوءة لديغول، وبدا منطق الرئيس الفرنسي الأسبق في عام 1963 ثاقب النظر، وهذا أن دل على شيء فهو يدل على عدم الوثوق بالحليف الأمريكي من جانب الفرنسيين منذ فترة طويلة.
عدم الوثوقية بواشنطن من جانب الأوروبيين بدأت تتكشف بشكل حاد مع عودة الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض مطلع هذا العام، وقراره الفردي بإنهاء الحرب الأوكرانية لمصلحة روسيا بعد أن كانت الولايات المتحدة الداعمة الأولى لكييف.
كل تلك التغييرات في السياسة الأميركية والتي زادت من مخاوف القارة العجوز، تبرهن على أن استراتيجية “الردع الموسع” التي أقرتها واشنطن للدفاع عن حلفائها مجرد خدعة، فما هي المظلة النووية الفرنسية التي كانت تحت المظلة النووية الأميركية أو ما يسمى “الردع النووي الفرنسي” والذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وإمكانية توسعه لحماية بعض الدول الأوروبية؟.
ماكرون أعلن عن استعداد بلاده لبدء مناقشات حول توسيع قوة الردع النووي الأوروبي لتشمل دولا أوروبية أخرى مثل ألمانيا، لحمايتهم من التهديدات الخارجية ولاسيما من الخطر الروسي.
وفي كلمة متلفزة قبيل اجتماع القادة الأوروبيين في بروكسل الأسبوع الماضي لمناقشة الدعم الأوكراني قال ماكرون: “إن الردع النووي الفرنسي لعب دائماً دوراً في المحافظة على السلام والأمن في أوروبا منذ عام 1964.”
وأضاف: “ولكن استجابة للدعوة التاريخية لمستشار ألمانيا المقبل، قررت فتح مناقشة استراتيجية حول حماية حلفائنا بالقارة الأوروبية عبر قوة ردعنا”.
وكان المرشح المحتمل لمنصب المستشار الألماني فريدريش ميرتس اقترح خلال حملته الانتخابية الأخيرة الشهر الماضي بفتح حوار حول مشاركة الأسلحة النووية الفرنسية والبريطانية في حماية أوروبا.
رؤية ماكرون أثارت ردود فعل دولية متباينة وانقسامات داخل أوروبا، حيث أبدت ألمانيا مجددا رغبتها في الحصول على الأسلحة النووية ورحبت بمقترح ماكرون بتوفير مظلة حماية لأوروبا عبر الترسانة النووية الفرنسية.
وكان ميرتس قال في وقت سابق بمقابلة مع إذاعة دويتشلاندفونك: “نحن ببساطة يجب أن نصبح أقوى معا في الردع النووي بأوروبا” وأن “المناقشات يجب أن تشمل أيضا بريطانيا، وهي أيضا قوة نووية”، مشيرا إلى أن الوضع الأمني العالمي المتغير يتطلب الآن أن يناقش الأوروبيون هذه القضية معاً.
من جهته، قال وزير النقل الإيطالي زعيم حزب رابطة الشمال ماتيو سالفيني إن “جيشا أوروبيا لا ينبغي أبدا أن يوضع في أيدي مجنون مثل ماكرون”.
أما صحيفة الكونفدنثيال الإسبانية فذكرت أن العديد من الخبراء يرون أن قوة الردع النووية الفرنسية، المعروفة شعبيا ودوليا باسم “قوة الردع النووي”، أنشئت في عام 1966 من قبل ديغول لمنع فرنسا من أن تصبح معتمدة استراتيجيا بشكل كامل على الولايات المتحدة، وفي العام نفسه غادرت فرنسا البنية العسكرية لحلف شمال الأطلسي، واستغلت هذا التحول في دفاعها لتأسيس عقيدتها النووية.
أستاذ الأعمال الدولية والاستراتيجية في كلية كينغز لندن مايكل ويت، قال: إن عرض فرنسا لتمديد مظلتها النووية إلى ألمانيا وبقية أوروبا يمكن أن يكون الحل الأكثر قابلية للتطبيق في ظل انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها الأمنية، مضيفاً أن أوروبا بحاجة إلى تعزيز إنتاجها المحلي للطاقة، بما في ذلك الطاقة النووية، لتقليل اعتمادها على مصادر خارجية وتعزيز أمنها القومي.
بالمقلب الآخر اعتبرت موسكو أن ذلك يشكل “تهديداً” لروسيا، وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: “بالطبع، هذا تهديد لروسيا.. إذا كان يعتبرنا تهديداً… ويقول إنه من الضروري استخدام سلاح نووي ويستعد لاستخدام سلاح نووي ضد روسيا، فهذا بالطبع تهديد”، بينما أكد المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف أن خطاب ماكرون “يعطي انطباعاً بأن فرنسا تريد استمرار الحرب”، معتبراً أن الخطاب كان “صدامياً جداً” إزاء روسيا.
ما يميز الردع النووي الفرنسي هو أنه ذو قوة نووية مستقلة وأحد الأركان الأساسية لأمن أوروبا، إذ لا تحتوي الأسلحة الفرنسية أي معدات أميركية، ما يعزز من قوتها الخاصة وتبنيها لسياسة “الردع الاستراتيجي المستقبلي” والتي تعني استخدام تلك الأسلحة كأداة ردع، للدفاع عن مصالحها وسلامة أراضيها فقط، وليس كأداة للهجوم، فماكرون أكد سابقا أن “الردع النووي لا يمكن أن يستخدم إلا في ظروف قاهرة جدا واستثنائية وفي إطار الدفاع عن النفس كما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة”، وبحسب العقيدة النووية
الفرنسية يمكن إنذار” العدو مرة واحدة” قبل تنفيذ الضربة النووية.
ووفقا لمديرية الإعلام القانوني والإداري التابعة لرئاسة الحكومة الفرنسية، فإنه في حال وقوع هجوم نووي ضد فرنسا، يجب أن يستهدف (الردع النووي) “مراكز قرار العدو” فقط ما يجعلها مختلفة تماما عن الاعتقاد السائد في القرن العشرين، والتي كانت تثير الخوف في نفس العدو عبر استهداف الأماكن السكنية وقتل العديد من الناس.
ووفق آخر تقديرات لمعهد استوكهولم لأبحاث السلام في عام الـ 2024، فإن فرنسا تمتلك 290 رأسا نوويا، جاهزة للاستخدام ومثبتة على الصواريخ في قواعد عسكرية، منها 10 رؤوس نووية احتياط، لكنها مقارنة بروسيا التي تمتلك عددا أكبر بكثير من الرؤوس الحربية النووية وتقدر بحسب المعهد حوالي الـ5580 رأساً نووياً، بينما الولايات المتحدة تمتلك 5044 رأساً نووياً، ما يجعل الترسانة الفرنسية محدودة جدا وقليلة أمام القوتين السابقتين.
ويبقى السؤال في الختام هل ستنجح القارة العجوز في تعزيز استقلالها الأمني وبناء وحدة ردع نووية مشتركة، في ظل الاستعلاء الأميركي بحق حلفائه، وهل ستنجح أيضاً في ردم فجوة الخلافات الأوربية الداخلية؟، وهل ستوافق المملكة المتحدة الحليفة لواشنطن على المشاركة في ذلك؟.
#صحيفة_الثورة