الثورة -نيفين أحمد:
في كل صيف، ومع أول ارتفاع في درجات الحرارة، تتكرر المأساة النيران تشتعل فجأة، تمتد بسرعة، وتلتهم الأخضر واليابس في الساحل السوري. أما المشهد هذا العام، فكان أشد قسوة، وأكثر إثارة للقلق، بعدما خرجت ألسنة اللهب من إطار الحوادث الموسمية، لتتحول إلى أزمة وطنية شاملة تهدد ما تبقى من ثروة طبيعية وبيئية نادرة في البلاد.
غابات تحترق… وذاكرة تُمحى
حرائق هذا الصيف اجتاحت مناطق واسعة من أرياف اللاذقية وطرطوس، وحماه ووصلت إلى تخوم قرى مأهولة، تسببت بنزوح مئات العائلات، وإصابة العشرات بالاختناق، وخسائر يصعب حصرها بدقة.
لكن الخسارة الأكبر، ليست فقط في عدد الأشجار المحروقة، بل في نوعها وعمرها وندرتها. فغابات الساحل السوري، وخصوصاً تلك الواقعة في مناطق صلنفة، كسب، ريف القدموس، وريف بانياس، تضم أنواعاً نادرة من الصنوبر والسنديان والبلوط، بعضها يعود عمره إلى مئات السنين، ويشكّل نظاماً بيئياً متكاملاً يسهم في توازن المناخ المحلي.
بحسب تقديرات أولية فإن الحرائق الأخيرة قضت على أكثر من 3000 هكتار من الغطاء الحرجي خلال أسابيع قليلة، في حين أن الرقم مرشح للارتفاع مع استمرار الحريق في بعض البؤر.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 700 ألف شجرة احترقت كلياً أو جزئياً، بينها أنواع معمّرة نادرة، إضافة إلى نفوق أعداد كبيرة من الطيور والحيوانات البرية التي تمثل جزءاً من التنوع البيولوجي في المنطقة.
من مصدر تنفّس إلى رماد
الساحل السوري كان يُعدّ خزاناً أخضر لسوريا، حيث يغطي الغطاء الحرجي أكثر من 30% من مساحته، ويلعب دوراً بيئياً أساسياً في امتصاص الكربون، وتنقية الهواء، وتثبيت التربة.
اليوم، باتت مساحات شاسعة منه رماداً، مما سيزيد من مخاطر الانجرافات الطينية والفيضانات الشتوية، ويُسرّع من تغيّر المناخ المحلي.
ضربة للزراعة والموارد المحلية
لم تسلم الحقول الزراعية وبساتين الزيتون والتين من النيران، فالكثير من المزارعين خسروا موسماً كاملاً، وبعضهم فقد أشجاراً استثمر بها عقوداً من العمل.
كما لحقت أضرار كبيرة بقطاع تربية النحل، نتيجة احتراق الغطاء النباتي وهروب أو نفوق خلايا النحل، ما يهدد مصدر رزق مئات العائلات.
وتسببت الحرائق أيضاً بتدمير البنية التحتية البسيطة في بعض القرى (كأعمدة الكهرباء، ومضخات المياه، وشبكات الري)، مما يضاعف من حجم التكلفة الاقتصادية.
رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها فرق الإطفاء المحلية الدفاع المدني والمتطوعون، إلا أن هناك شبه إجماع على أن الإمكانيات غير كافية.
الطبيعة بحاجة إلى إنقاذ
حرائق الساحل السوري هذا العام ليست مجرد “حدث موسمي”، بل مؤشر على خطر بيئي يهدد مستقبل الأجيال. فحين تحترق الغابة، لا نحرق الأشجار فقط، بل نحرق معها الهواء النظيف، والتنوع البيئي، ومصادر الرزق، وذاكرة المكان.
قد تُخمد النيران قريباً، لكن الخسارة ستستمر لسنوات… ما لم تبدأ خطة وطنية جادة لإعادة التأهيل والتشجير .