الثورة – تحقيق محجوب الرقشة وعبد الحميد غانم:
تمهيداً لانطلاق عملية البناء والإعمار في سوريا، تبرز تحديات في غاية من الأهمية، لناحية إعادة تدوير ملايين الأطنان من الأنقاض ونواتج الأبنية التي دمرها النظام المخلوع، والأهداف الأساسية التي تحققها عمليات إعادة تدوير الأبنية المدمرة في توفير مواد بناء مستدامة وتخفيف الأعباء البيئية والاقتصادية، وخلق فرص عمل أمام هذا الدمار الهائل الذي يجعل التخلص منه ومعالجته تحدياً بيئياً واقتصادياً ضخماً، وضرورة ملحة لتنظيف المدن وتسهيل إعادة الإعمار، وإزالة الأخطار البيئية والصحية الناجمة عن مخلفات الحرب.
في هذا التحقيق الصحفي نتابع آراء عدة حول هذا الموضوع..
فوائد اقتصادية وبيئية
أمين سر نقابة المهندسين السوريين المهندس رصين عصمت أشار إلى أن عملية إعادة استخدام بقايا البيتون التي تشمل بقايا الأبنية المتهدمة ومخلفات الإنشاء، تحقق هدفين في وقتٍ واحد، فهي أولاً تخفف من الآثار السلبية على البيئة والاقتصاد والصحة العامة، وذلك من خلال إيجاد الحلول للمكبات المخصَّصة لاستيعاب بقايا عملية الهدم، والتخلص منها.
والهدف الثاني من خلال التقليل من استنزاف المصادر الطبيعية للحصويات وتأمين موارد رخيصة لها، بالإضافة إلى التأثير الايجابي على السياحة، والعامل الجمالي للبلد، وتخفيض تكاليف النقل، وإيجاد فرص عمل جديدة مرافقة لهذه العملية.
وتشمل عملية إعادة التدوير- وفق المهندس عصمت، فصل المواد القابلة للاستخدام، والتي تكون ناتجةً عن عملية التشييد أو عن عملية الهدم (البيتون، والمونة الإسمنتية، والخشب، والحديد)، ويُمكن أنْ يُعاد تدوير بعض المواد مرةً أخرى ولنفس الاستخدام، والبعض الآخر يُعاد تشكيله لاستخدامات مختلفة.
ولفت عصمت إلى وجود اعتقادات خاطئة أنَّ البيتون لا يُمكن إعادة استخدامه، لكن بالرغم من أنه لا يُمكن أنْ يتم تكسيره إلى عناصر أساسية مكونة له (مثل الحصويات، والإسمنت)، إلا أنه يُمكن أنْ يتم تدويره من أجل الحصول على الحصويات التي يُمكن استخدامها في إنتاج بعض أنواع البيتون في المكان، مثل بيتون النظافة، وبيتون الأرضيات، أو يُمكن أنْ يكون أحد المواد الخام في صناعة الإسمنت بنسب محدَّدة لإنتاج الكلنكر، أو يُمكن أنْ يُضاف خلال طحن الكلينكر مع الجص.
فاعليةً أفضل
أما عن رأي نقابة المهندسين بإمكانية الاستفادة من إعادة تدوير نواتج الهدم، والخيارات المُتاحة لإعادة التدوير، فقد بيّن المهندس عصمت، أنَّ الخصائص الفيزيائية الأفضل للحصويات الناتجة من إعادة تدوير البيتون تجعلها مفضلةً لبعض التطبيقات كالاستخدام في طبقات ما تحت الأساس في الطرق، حيث تُعطي فاعليةً أفضل من ناحية الرص وتتطلب إسمنتاً أقل، علاوة على ذلك هي أقل تكلفةً.
وقال أمين سر نقابة المهندسين: إنَّ عملية إعادة تدوير المخلفات بشكلٍ عام لها فوائد اقتصادية وبيئية واضحة وعديدة، وإعادة استخدام مخلفات البيتون تحديداً له فوائد، منها: تقليل الحاجة إلى المساحات المخصصة لردم بقايا البيتون، وذلك لأنَّ نسبة كبيرة من مخلفات هدم المباني يتم إعادة استخدامها، وهذا من شأنه توفير هذه المساحات لأغراضٍ أخرى، وحماية البيئة من آثار هذه المخلفات.
آثار إيجابية
وأضاف: كذلك التوفير في نفقات إعادة تأهيل الأماكن المخصَّصة لمكبات بقايا البيتون، وتوفيـــر بديـــل محلــي أقل تكلفة من الحصويات الجديدة، وما يحقق ذلك من آثار إيجابية من خلال التخفيف من الأثر الضار لوجود المقالع على الطبيعة، كما يساعد على التخفيف من أعباء النقل، حيث من الممكن إعادة تدوير بقايا البيتون في مكان وجوده، أو في المكان الذي سيستخدم فيه، أو قريب من الأماكن المأهولة.
وأوضح أن إمكانية الاستخدام الجيد والفعَّال في الإنشاء، وتحسين الخواص الهندسية (كمثال على ذلك الطرق إذ يمكن أنْ تُحسِّن من خواص طبقات الأساس)، يساعد على خلق قطاع من الأنشطة الاقتصادية المرافقة لعملية التدوير، وتوفير فرص عمل واستثمار من خلال إنشاء مصانع إعادة تدوير المخلفات البيتونية، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ إعادة تدوير حديد التسليح (من خلال الصهر مثلاً) قد يزيد من الجدوى الاقتصادية لهذه المصانع.
تأمين فرص عمل
وشدد أمين سر نقابة المهندسين على أنه إذا صار الطلب على المخلفات البيتونية أكبر من مخلفات المباني المتهدِّمة، فإنه يُمكن فتح مناطق الردم القديمة، وإعادة تدوير المخلفات البيتونية فيها، وذلك من شأنه المساعدة على إعادة تأهيل وتنظيم هذه المناطق.
وحول الأهمية الاقتصادية لعملية التدوير، لفت المهندس عصمت إلى أنه إضافةً إلى الحصول على مواد ذات قيمة، نتيجة إعادة تدوير البيتون، فإنَّ هذه العملية تشجِّع على نمو صناعات مرافقة وخلق فرص عمل، فمثلاً في ولاية نيوجرسي في الولايات المتحدة فإنَّ عمليات إعادة التدوير ترفد الاقتصاد من خلال تأمين ما يقارب 27.000 فرصة عمل.
ومن جهةٍ أخرى، بيّن عصمت أن إعادة التدوير تخفف من الأعباء والكلّف في عملية النقل وتوفير المساحات الخاصة بالمكبات، وأنه من البديهي أنَّ هنالك كلفاً لإعادة التدوير ولكن التخطيط والإدارة الجيدة ستخفف منها وتبقى مجدية اقتصادياً مع الزمن.
نسبة التوفير
وأوضح أن البرنامج الجيد لإعادة التدوير سيكون مركَّزاً على تحويل أطنان من البقايا إلى مواد ذات قيمة، وبالتالي التوفير من الكلف المتعلقة من التخلص منها يجب أنْ تضاف إلى الجدوى الاقتصادية لها، مثلما حصل في بعض الولايات الأميركية، إذ قدرت نسبة التوفير في استخدام المواد المعاد تدويرها عنها في استخدام مواد أولية جديدة 50-60 بالمئة.
وقال: إنَّ تكاليف ترحيل بقايا البيتون إلى المكبات أكبر من إرسال هذه البقايا من أماكن تواجدها إلى أماكن إعادة التدوير يزداد التوفير فيها إذا كانت إعادة الاستخدام في المنشآت الجديدة تتم في المكان.
مضيفاً: تتعلق التكلفة بما يخص الآلات المستخدمة في إعادة التدوير على نوع ومدى التقنية المتبعة، فمثلاً استخدام الحصويات مع المونة الملتصقة عليه يحتاج إلى تكاليف آليات أقل منها في حال الحصول على حصويات نظيفة.
ولفت أمين سر نقابة المهندسين إلى أنَّ إعادة التدوير في ألمانيا وهولندا والدنمارك هي أقل تكلفة بالمقارنة مع الدول التي تفتقر إلى البنية التحتية لإعادة التدوير مع وفرة بالمواد الأولية، حيث تُعتبر عملية إعادة التدوير مكلفة.
خفض التكاليف
وحول أفضل استخدام فني واقتصادي لعملية إعادة التدوير، أكد المهندس عصمت أنَّ أفضل استخدام هو طبقات الأساس، وما تحت الأساس في الطرقات، إذ تُستخدم الحصويات في طبقة الأساس والرصف، وطبقة ما تحت الأساس بشكلٍ واسع وشائع، وقد وضعت في العديد من البلدان المواصفات الناظمة لاستخدامها.
وذكر أن الأبحاث تُشير إلى أنَّ استخدام المواد الناتجة من إعادة الاستخدام لبقايا البيتون أعطت نتائج جيدة من خلال التخفيض من سماكة طبقات الرص وزيادة قدرة تحملها، فعند استخدامه في طبقات الأساس فإنَّ المواد الإسمنتية المفككة في الحصويات تلعب دوراً رابطاً أقوى من المواد الناعمة الموجودة في الحصويات الطبيعية، مما يؤدّي إلى زيادة المقاومة وإلى الحصول على طرق بديمومة جيدة.
وحول ما يتم تداوله حالياً من أنَّ الأنقاض الناتجة عن المدن المدمَّرة تُشكِّل 50 بالمئة من المواد الخام لصنع الخرسانة، مما يُساعد في خفض تكلفة البناء بنسبة 40 بالمئة، أوضح م. عصمت أنه لا توجد إحصائيات دقيقة تماماً، لكن يمكن الإشارة إلى أنَّ عملية تدوير الأنقاض بشكلٍ علمي مدروس يُساهم إلى خفض التكاليف، وخاصةً في مشاريع الطرق، ومشاريع البُنى التحتية، وفي تخفيض تكاليف العناصر غير الإنشائية في الأبنية.
تحفيز الاقتصاد المحلي
وجهة نظر مقاولي الإنشاءات ركزت على الجانب الاجتماعي والإنساني، فقد أكد مدير الإعلام المركزي في نقابة مقاولي الإنشاءات المهندس محمد النعسان أن التفكير بالأنقاض وإعادة تدويرها، هو الخطوة الأولى والرئيسية في إعادة الإعمار، لما تحمله من آفاق مختلفة لتطوير العمل والارتقاء به، وتخفيف مظاهر البؤس والمعاناة لأصحاب تلك الأطلال التي كانت في يوم من الأيام منازل ومنشآت عامرة بالسعادة والفرح، إضافة للطرق والمرافق العامة من (كهرباء ومياه وصرف صحي وشبكات نقل)، ومن دون إزالتها، يكاد يكون من المستحيل البدء في إعادة بناء المنازل والمستشفيات والمدارس وغيرها من المباني العامة الحيوية.
ولإزالة الأنقاض، نوه بوجود العديد من الفوائد، أهمها: إزالة الأجزاء الآيلة للسقوط ومخاطرها، حيث تحمي السكان المحليين جراء أي احتمالية لوجود تصدعات أو تشققات في الهياكل غير المستقرة التي يمكن أن تسبب الضرر والأذى لهم أثناء العواصف المطرية و الرياح وغيرها، كما أن إزالة الأنقاض تقلل من خطر الإصابات الصحية الناتجة عن وجود الغبار التي تسبب تلوث الهواء وفرص تكاثر القوارض والحشرات ضمن أكوام الأنقاض المهدمة التي تكون بيئة مناسبة لها.
تحريرها من مخلفات الحرب
ولفت النعسان إلى ضرورة أن تساعد عمليات المسح وإزالة مخلفات الحرب غير المتفجرة قبل العمل على إزالة الأنقاض في حماية المدنيين من فرص الحماية من الموت المحقق، بسبب تلك المخلفات في حال لم يتم التخلص منها وفقاً لمعايير خاصة آمنة.
وأوضح أن إزالة الأنقاض وهدم المنشآت الآيلة للسقوط وإعادة تدوير الأنقاض لإنتاج مواد تساهم في البناء والأعمار من جديد، هو أمر ضروري للتعافي الاقتصادي، كما أنها تخلق فرصاً للعمل وتحفز الاقتصاد المحلي.
وقال: إن إعادة تدوير الأنقاض وتحويلها إلى مواد بناء يخفف من الحاجة إلى مواد خام جديدة، ويقلل من التدهور البيئي ، وفقاً لمعايير ومواصفات خاصة لمعامل التدوير (المتنقلة والثابتة).
ولفت إلى أن الإزالة تساعد في استعادة الشعور بالحياة الطبيعة كما يسمح للسكان النازحين بالعودة وإعادة بناء حياتهم من جديد، مما يحقق الرفاهية النفسية، من خلال رؤية التقدم في عملية التنظيف وإعادة البناء الذي يعزز من الروح المعنوية والصحة الداخلية للسكان المتضررين، الذي يعني وجود الأنقاض أمام أعينهم بأنه تذكير يومي بالصدمة والدمار، ويمكن أن يكون لإزالة الأنقاض تأثير نفسي إيجابي، مما يشير إلى بدء إعادة الإعمار والشعور بالأمل في المستقبل.
فرصة استراتيجية
الخبير الاقتصادي العقاري عامر ديب، أكد أن إعادة تدوير الأبنية المدمرة فرصة اقتصادية ومكون استراتيجي لإعادة الإعمار وله جدوى اقتصادية هامة، مشيراً أنه مع التمهيد لانطلاق عملية البناء والإعمار في سوريا، تظهر مسألة إعادة تدوير الأبنية المدمرة كأحد التحديات الجوهرية التي يجب تحويلها إلى فرصة استراتيجية.
وبيّن ديب أن أنقاض المدن السورية، التي خلّفها الدمار الممنهج خلال سنوات الحرب، لم تعد مجرد عبءٍ بيئي أو عمراني، بل أصبحت مصدراً واعداً لمواد البناء إذا ما تمت معالجتها ضمن إطار هندسي وتقني حديث.
وأوضح أن التدوير من منظور اقتصادي، يعطي الجهات المختصة، إمكانية كبيرة للاستفادة الواسعة من إعادة تدوير الردميات، عبر استخدام تقنيات الغربلة والمعالجة الميكانيكية والحرارية لإنتاج مواد قابلة للاستخدام من جديد في قطاع البناء.
وحول أبرز الخيارات المتاحة للتدوير، أشار ديب إلى خيارات فرز الحديد وإعادة صهره، وتكسير الخرسانة لإنتاج الركام البديل، وحتى إعادة استخدام الطوب والمعادن الثانوية ضمن معايير محددة. هذه العمليات ليست تجريبية، بل أثبتت جدواها في عدد من الدول التي شهدت حروباً وصراعات مماثلة.
وأشار ديب إلى أن الرقم الذي أشارت إليه التقديرات المتداولة، إلى أن أنقاض المدن السورية يمكن أن تغطي ما يقارب 50 بالمئة من المواد الخام اللازمة لإنتاج الخرسانة الجديدة هو رقم منطقي من حيث المبدأ، خاصة مع وجود ملايين الأطنان من الحديد والخرسانة الصالحة لإعادة الاستخدام.
وأكد أن الأثر المالي لذلك كبير، إذ يُمكن أن يؤدي هذا التوجه إلى خفض تكلفة البناء بنسبة قد تصل إلى 40 بالمئة ويمكن أكثر من خلال تخفيف الاعتماد على الاستيراد وتقليل الكلف التشغيلية، مما ينعكس إيجاباً على سعر المتر وبالتالي هي أسعار إيجابية للمواطنين.
واجب وطني
وعلى صعيد الفوائد والعائدات المالية، أكد ديب أن أبرزها يتمثل في الحفاظ على انسيابية سوق مواد البناء وتوفيرها بأسعار مستقرة، بعيداً عن تقلبات السوق العالمية، كذلك فإن مشاريع إعادة التدوير تساهم في خلق فرص عمل جديدة، وتدعم الصناعات المحلية، وتخفض الضغط على الموانئ والمعابر الحدودية فيما يخص استيراد الإسمنت والحديد والركام.
وفيما يخص الخطط المستقبلية لإعادة الإعمار، رأى ديب أن إعادة التدوير يجب أن تُدمج ضمن السياسة الوطنية لإعادة الإعمار، مع إنشاء مصانع تدوير قرب التجمعات السكنية المتضررة، وتوفير قروض أو حوافز للمستثمرين في هذا المجال.
مؤكداً أهمية إعطاء الأولوية في السكن للأسر المتضررة، ضمن خطط إسكان ميسّرة التكلفة، تعتمد على الموارد المحلية المعاد تدويرها.
وخلص ديب أن تدوير الأبنية المدمرة ليس فقط خياراً اقتصادياً، بل هو واجب وطني يُسهم في إعادة الإعمار بخطى أسرع وبكُلفٍ أقل، ويعزز من قدرة السوريين على استعادة حياتهم الكريمة بأدواتهم، ومن أرضهم.
وبالمجمل، تتفق وجهات النظر التي تناولت هذه المسألة على أن لها أهمية كبيرة على صعيد الإعمار وتوفير الكثير من الأموال لتوظيفها في مجالات حيوية اقتصادية واجتماعية ودفع عملية البناء خطوات إلى الأمام.