الثورة – أحمد صلال – باريس:
فيلم وثائقي ضروري لفهم التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها هذه المنطقة الجريحة..
في غزة، عليك أن تصل في مساء الربيع، وتغلق غرفتك وتستمع إلى الأصوات القادمة من النوافذ المفتوحة، إنه عام ٢٠١٨.
عمري خمسة وعشرون عاماً، وأنا مسافر أجنبي، ألتقي بشباب فلسطينيين من بلدي.
عنوان يبدو وكأنه استفزاز، لأن استحضار هذه المدينة، في الخيال الجماعي، لا يتوافق مع الحلم والخمول المرتبط باكتشاف سياحي، حتى لو كان المنظر المتخذ هنا يعود إلى عام 2018 ولا يتعلق بأحداث عام 2025.
يبدأ الفيلم بصور جنازة ياسر مرتجى، المصور الشاب الذي قتله الكيان الإسرائيلي أثناء تغطيته لمظاهرة ضد الحصار الإسرائيلي.
يتيح لنا هذا التنديد العلني الحديث عن الوضع الجيوسياسي، ولكنه يتيح أيضاً التعبير عن أصوات أولئك الذين لا نراهم ولا نعرف أسماءهم.
في وقتٍ تشهد فيه التقارير الإخبارية التلفزيونية على إبادة هذه المدينة الشهيدة والمناطق المحيطة بها، قلّما يُكرّس المخرج الشاب وقته لإعادة النظر في تاريخها وثرواتها.
شارك “بييرو أوسبيرتي”، منذ مراهقته، في نقاشات ولقاءات سياسية متعلقة بغزة، بعد ذلك بقليل، أمضى والده، الأستاذ في جامعة سيينا “إيطاليا”، عدة أيام هناك، في إطار برنامج تبادل أكاديمي مع جامعتين في غزة.
أخبره عن الحياة اليومية والضوء والريح، أعقب ذلك لقاءٌ مع طالب فلسطيني، ثم مع مؤسس مركز التبادل الثقافي الإيطالي الفلسطيني، بعد أن أخرج فيلمه الوثائقي الأول، “يوم آخر”، والمُخصّص لمدينة تورينو، أراد المخرج الشاب أن يتناول من جديد اكتشاف مدينة، ستكون غزة فيلمه المفضل، ولسرد قصتها، تخيّل سلسلة من اللقاءات والمقابلات مع شباب في مثل سنه، لفهم أسلوب حياتهم وتطلعاتهم وآمالهم، ولردّ الجميل.
فيما يتتبع المخرج تقلبات هذه المنطقة من العالم، من نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين وقيام كيان إسرائيل إلى “مسيرة العودة”، تلك الحركة الاحتجاجية الضخمة التي خلّفت بعض القتلى “من بينهم المصور ياسر مرتجى”، وجرحى كثيرين في مارس 2018، يُركّز على جمال المكان، الأراضي الخصبة المزروعة بأشجار الزيتون، والبحر الذي تغرب عليه الشمس، والشواطئ، وحقول الفراولة الشاسعة.
أراضٍ تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، محصورة بين مصر وإسرائيل، تخضع لمراقبة مستمرة من طائرات بدون طيار، ومحاطة بسياج أمني مشدد يُشكّل أحد أكثر الحدود استعصاءً على الاجتياز في العالم.
فبينما تُوحي البنية التحتية للطرق، والأطفال في وسائل النقل، ووجود المتاجر، كلها تُعطي انطباعاً بحياة عادية، فإن الاقتصاد، الذي تسيطر عليه إسرائيل، مُستنزف، والعمل نادر “مع استحالة الخروج للبحث عنه في مكان آخر”، والماء والكهرباء مُقيدان.
يأخذنا تعليق صوتي مُتحيز عمدا للقاء سارة، وهي عاملة إنسانية لاجئة الآن في ميلانو، ومحمد، جامع كتب كبير، وجمانة، وهي صحفية الآن، وعدد قليل غيرهم، جميعهم مُمزقون بين التمرد على سجنهم ظلماً، ورفض التقاليد.
ومع ذلك، وهذه هي قوة النص، لا توجد شكاوى.. مجرد حب/كراهية لهذا البلد، القوي والغني بالموارد، الذي هو ملكهم دون أن ينتموا إليه حقاً، على الرغم من الحبس الدائم، خلف التعب وأحلام الهروب، والضحك، والتطلعات العالمية، وفوق كل شيء، تبقى قوة مقاومة استثنائية.
“رحلة إلى غزة”.. ليست مجرد مشروع سينمائي ناجح له ميزة هائلة في تجميد ضجيج مدينة، اختُزل اليوم إلى لا شيء.