الثورة – إيمان زرزور:
تُعد قلعة حارم الواقعة في شمال محافظة إدلب واحدة من أهم القلاع التاريخية في سوريا، لما تمتاز به من موقع استراتيجي فريد على تلة مرتفعة تشرف على سهل الغاب وتمر عبرها الطرق القديمة بين أنطاكية وحلب، ما جعلها عبر القرون مركزاً عسكرياً وتجارياً بالغ الأهمية، وشاهداً على حقب متتالية من الصراعات والنهضة في التاريخ السوري.
تقع القلعة في الجهة الغربية من مدينة حارم، على ارتفاع يقارب 475 متراً عن سطح البحر، ما يمنحها إطلالة بانورامية على المناطق المحيطة، وقد شكل هذا الموقع الحصين سبباً في أهميتها الدفاعية عبر العصور، إذ تحصنت بها الجيوش منذ العهد الروماني مروراً بالبيزنطيين، وصولاً إلى العصور الإسلامية الوسيطة.
ويرجّح المؤرخون أن القلعة بُنيت في عهد الإمبراطور الروماني دقلديانوس في القرن الرابع الميلادي، قبل أن تشهد توسعات متتالية في العهد البيزنطي، ثم أعيد ترميمها في فترة الحكم الزنكي والأيوبي لتتحول إلى قاعدة عسكرية متقدمة ضد الصليبيين.
برزت قلعة حارم بشكل خاص في القرن الثاني عشر الميلادي حين أصبحت واحدة من أهم القلاع الإسلامية في مواجهة الحملات الصليبية، وتشير المصادر التاريخية إلى أن القائد نور الدين زنكي أعاد بناء القلعة بعد أن استعادها من الصليبيين عام 1149م، ثم وسّع صلاح الدين الأيوبي تحصيناتها لاحقاً لتكون خط الدفاع الأول عن حلب والشمال السوري.
وفي عام 1260م، تعرّضت القلعة لهجوم المغول بقيادة هولاكو، فدُمّرت أجزاء كبيرة منها، لكنها سرعان ما استعادت مكانتها خلال الحقبة المملوكية ثم العثمانية، إذ استخدمت كمركز إداري وعسكري يسيطر على طرق التجارة بين الشمال السوري وبلاد الأناضول.
تتميز قلعة حارم بتصميمها الهندسي، الذي يجمع بين القوة الدفاعية والجمال المعماري، إذ تحيط بها أسوار ضخمة بُنيت من الحجر الكلسي المحلي، وتتخللها أبراج مراقبة عالية وبوابات محصنة.
وتضم القلعة من الداخل بقايا قصور ومساكن للحامية العسكرية، إضافة إلى خزانات مياه منحوتة في الصخر لضمان الإمداد أثناء الحصار.
كما توجد في محيط القلعة آثار لبلدة قديمة يُعتقد أنها كانت تضم سوقاً ومساكن للجنود والتجار، ما يدل على أن القلعة لم تكن مجرد حصن عسكري، بل مركز عمراني متكامل يعكس ازدهار المنطقة في العصور الوسطى.
تُعد قلعة حارم اليوم إحدى أبرز الوجهات السياحية في محافظة إدلب، إذ تستقطب الزوار والباحثين في التاريخ والآثار، وتُعد رمزاً من رموز الهوية السورية لما تحمله من إرث حضاري طويل، وتسعى الجهات المحلية حالياً، بالتعاون مع خبراء في الآثار، إلى وضع خطة ترميم متكاملة للحفاظ على بقايا القلعة من عوامل التعرية والإهمال، وإعادة إحياء محيطها كموقع أثري وسياحي.
ويؤكد باحثون في التاريخ السوري أن قلعة حارم سجل مفتوح يحكي عن عراقة الشمال السوري وصموده في وجه الغزوات، وعن المكانة التي احتلتها إدلب عبر التاريخ كمركز تواصل بين الحضارات.
رغم ما مرّ بها من دمار وزلازل وحروب، ما زالت قلعة حارم تقف شامخة، تروي قصص الملوك والمحاربين، وتُذكّر السوريين بأن جذورهم أعمق من كل ما مرّ عليهم من محن.
إنها ليست فقط حجارة متماسكة فوق تلة، بل ذاكرة أمة تختزل في صمتها مجد التاريخ وملامح المستقبل.