ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
تتجه بريطانيا لتغيير استراتيجيتها بعد أن سبقتها أميركا على ذلك تحت ذرائع تكاد تتفق في العناوين، وإن اختلفت في التفاصيل والدوافع والمعطيات، أو تمايزت في الأهداف والمسوغات لجهة التعاطي مع المتغيرات التي تبرز فيها التطورات في المنطقة وخارجها، أحد أهم الحجج المساقة للتغيير.
ربما لم يكن تغيير الاستراتيجيات في عقود مضت أمراً يثير الانتباه، أو يحظى بهذا الاهتمام، بحكم أن الكثير منها بقي لعهود طويلة من دون تغيير، وبعضها الآخر جاء نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي وتسيّد القطبية الأحادية للمشهد العالمي وما أفرزه من تطورات، فاقتضت الضرورة المصلحية للدول الغربية أن تختلق جملة من الأعداء الوهميين كي تبرر وجودها، بل ذهبت بحلف شمال الأطلسي إلى الاعتماد على أعداء افتراضيين وإدخال تعديلات جوهرية على بنيته من أجل تسويغ استمراره بعد سقوط حلف «وارسو».
لكنها في سياق ما تحدده ظاهرياً، تَحضر المنطقة -بالتحديات الناجمة عن تطوراتها المتسارعة- كأحد عوامل الاندفاع في تغيير الاستراتيجيات الغربية، والدافع الذي لا يغيب عن سطور أي استراتيجية تريد أن تقارب الواقع الجديد، وهذا ما يتضح بصورة كليّة في محاكاة خفيّة لمواجهة قادمة تعدّلت فيها قواعد الاشتباك وتغيّرت قوانين التحالف، وربما انتهت إلى غير رجعة تلك التي كانت سائدة.
هذا المؤشر يحمل بروزاً متزايداً لمعطيات نظام عالمي ينهي حقبة الأحادية الأميركية التي أقرّ الكثير من ساسة البيت الأبيض أنها في مواجهة خطيرة وتحدٍّ أخطر مع الصعود الروسي والتحرك الصيني الهادئ، تقابلها حسابات بريطانية لا تقل عنها في سياق التفسير البسيط للأسباب الموجبة التي دفعت بها إلى تغيير استراتيجيتها، لتتصدر روسيا قائمة الدول التي تشكل تحدياً بالنسبة لها، وهي التي لم تكن كذلك في آخر استراتيجية وضعتها عام 2010.
غير أن الأكثر دلالة في المشهد تلك التسريبات المتعمدة عن محاولات تحرّش سياسي بريطاني بروسيا، سبق أن ترجمتها جملة من المعطيات.. اقتضت في إحداها على الأقل أن تستدعي موسكو السفير البريطاني للاستفسار عنها، وربما كانت حاسمة لجهة نيات بريطانيا أن تقدم تمهيداً يسبق الخطوات الأميركية استراتيجياً، ويكون ساعي بريد لحروبها تكتيكياً.
المعضلة الفعلية اليوم أن هذا التغيير لا بد أن يترافق بمتغيرات في الاصطفاف الدولي على ضفتي المشهد، والأخطر أنه سيخلّف وراءه فجوات وفراغات في مساحات كبرى داخل المنطقة وخارجها، ولا تخلو من مخاطر تلوّح بها واشنطن، وتسبقها إليها أحياناً بريطانيا، وهي لا تكتفي بما هو قائم ومحتمل، بل تعمل على رسم خرائط جديدة لا يبدو المخاض القائم في المنطقة خارج احداثياتها في محاولة محمومة لتقاسم نفوذ مفترض لا يعترف بإرث تحالفات الماضي، وإن تمسك بحسابات القطبية الأحادية.
الحامل السياسي الفعلي لكل ما نشهده لا يرتبط بما ترسمه الاستراتيجيات الغربية، ولا يقتصر على ما نراه، أو نتوقعه، أو نتخيله من انزياح في العلاقات الدولية، تفرضه ترتيبات المشهد بجديد أقطابه، وما قد يتبقى من قديمه، وإنما في المحاولة الاستباقية لإبقاء اليد الغربية على زناد المواجهة، وأن تظل فوهة التحكم بالانفجارات المتنقلة في المنطقة وخارجها رهناً بالقرار الأميركي.
بريطانيا.. حين تسرّب الرغبة في تغيير استراتيجية أمنها الوطني، وحين تتحدث وهي المحمولة على إرث استعماري، يقود مجسّات الأطماع الأميركية، وينقلها غرباً وشرقاً، لا تنطلق من فراغ الاعتقاد السياسي، ولا من وهن الاحتمالات الافتراضية، بقدر ما تحدد.. وتوجّه.. وتضع محددات ومعايير ومواصفات القاطرة الأميركية في المواجهة التي رفع وزير الحرب الأميركي سقفها حين تحدث عن مواقف عملية لمواجهة الحراك الروسي مع التركيز على ما يستتبعه من خطوات أميركية تلوّح بها استراتيجيتها المعدلة سلفاً، وما سيليها من تعديلات بالضرورة على باقي حلفائها الغربيين.
تنافر العلاقة بين أقطاب العالم لا يكتفي هنا بالتذكير بأجواء الحرب الباردة، بقدر ما يؤشر بوضوح إلى ما يسبقها من مواجهات ساخنة في نقاط متحركة داخل المنطقة وخارجها، ولا يسقط من خيارات الغرب هنا الرجوع إلى أوراقه وأدواته القديمة وجديدها التنظيمات الإرهابية، وما تحمله من مؤثرات صوتية أكثر مما هي فعلية في ميدان المواجهة وعلى امتداد المساحات الملتهبة.
a.ka667@yahoo.com