رغم مضي زمن طويل على ظهور (المقامة) التي أطلقها (بديع الزمان الهمذاني سنة 398 هجريّة) وطوّرها (محمد القاسم بن محمد عثمان الحريري سنة 447 هجريّة) لا يزال هذا الجنس من الأدب العربي مثار اهتمام وبحث ودراسة ومتابعة، سواء من قبل الأدباء أو الفنانين التشكيليين، حيث وُضع للعديد من المقامات (لاسيّما مقامات الحريري) رسوم في غاية الدقة والروعة، مهدت لما يمكن تسميته (التصوير الإسلامي).
نشأة المقامة
يحدد كتاب (من مقامات الحريري) اختيار وتقديم د. محمود الحسن، مطلع القرن الخامس الهجري، بداية ظهور فن المقامة على يد الهمذاني، وقد لاقى هذا الفن قبولاً منقطع النظير بين أوساط العلماء والمؤدبين، فأقبلوا على دراستها وتدريسها للناشئة، وانكبوا على شرحها وحفظها، إلى أن جاء الحريري بمعجزته التي بهرت جميع من تذوقوا الأدب، وأحبوا الفن.
المقامات جمع مقامة، وهي في أصل اللغة اسم للمجلس والجماعة من الناس. ثم أُطلق لفظ المقامة على الأحدوثة في الكلام (بحسب القلقشندي) كأن تُذكر في مجلس واحد، يجتمع في الجماعة من الناس لسماعها. والمقامات أقاصيص قصيرة، تحكي مغامرات أديب ظريف، يحتال بفصاحته الأدبيّة، وبراعته الأسلوبيّة على الناس.
لاقت المقامات قبولاً واستحساناً عجيبين، ما دفع البعض للنسخ على منوالها، لكن هذه المحاولات جاءت متواضعة، إلى أن جاء الحريري فأنشأ مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن، لاسيّما بعد أن طرزتها رسوم الواسطي، فزادت ألقها ألقاً، وحسنها حسناً.
لم يقتصر انتشار المقامات على العالم الإسلامي، بل انتقلت عبر الأندلس إلى أوروبا، حيث تأثر بها الأوروبيون، وكان لها تأثير واضح في الأدب الإسباني، إذ نشأ على غرارها في منتصف القرن السادس عشر لون من الفن القصصي، ازدهر في القرن التالي، سُمي (الأقاصيص البيكارسيّة) وسُمي بطلها (لبيكارو).
مقامات الحريري
يُشير كتاب (من مقامات الحريري) إلى أن المقامات هي المرآة التي تتجلى فيها شخصيّة الحريري، وصفاته النفسيّة والعقليّة والخلقيّة. فمن يقرأ المقامات يشعر أن مؤلفها غزير العلم، يتعمق في دقائق الأمور، وغوامض الأشياء، ويحس أنه أمام إنسان واثق بنفسه وعلمه، قادر على التلاعب بالألباب ومداعبة العقول، متمكن من الخوض في المنطق والفلسفة وجزئيات التفكير، غير منازع في سوق البراهين وإسراج الحجج، وكل ذلك يصطبغ بروح الدعابة الحريريّة.
تُعد المقامات أهم مؤلفات الحريري وإليها يُعزى كل ما حصده من شهرة وفضل في مجال التأليف، وهي خمسون مقامة بدأ بتأليفها سنة 495 للهجرة وأتمها حوالي سنة 504 للهجرة، وقد أقدم على تأليفها بإشارة من أحد رجال الحكم هو (أنوشروان بن خالد) وزير الخليفة المسترشد، أو من قبل والي البصرة. لها بطلاً هو (أبو زيد السّروجي) ورَاوية هو (الحارث بن همام البصري) والشخصيتان من إبداع خياله على الأرجح، وهذه المقامات تحفة فنيّة تستمد قيمتها مما تتضمنه من مباحث جديدة، وأساليب مبتكرة، وأحاجي فقهيّة ونحويّة، ومسائل لغويّة هامة، وتضم الكثير من الأمثال العربيّة، وكم هائل من الألفاظ.
موضوع المقامات
مقامات الحريري (بحسب الكتاب) حكايات قصيرة، لا تخضع لمعايير القصة بمفهومها الحديث، وإنما هي أقرب إلى تلك الحكايات التي نجدها مبثوثة في كتب الأدب القديمة، لاسيّما كتب الجاحظ وكتاب الأغاني، حيث كانت تلك الحكايات تُعنى بأخبار الكلمة، وجمال القول، وحُسن الجواب، ولطف التدبير، وقوة الحجة، وبراعة الجدل، والإرشاد والنصح، والنقد والفكاهة. أما أسلوب المقامات فقد استعمل فيه الحريري كل ألوان البيان والمعاني والبديع، استعمال الخبير بفنون الكَلِم، الطموح دائماً إلى التفوق، المتيقظ الحَذر من الاهتمام بالموضوع، لذلك جاءت لوحة فنيّة، تظهر فيها براعة الصنعة، التي شفع لها وخفف من غلوائها خفة الروح، وسلاسة الطبع، والخبرة بالمعاني والأساليب، وكل ذلك أسهم في كمال صورتها حتى غدت آية من آيات الإعجاز. ونظراً لأهمية المقامات فقد قام عدد كبير من العلماء بشرحها وتوضيح غامضها، يتقدمهم (الشريشي) الذي لم يترك فائدة في المقامات إلا استدرجها، فكان بذلك أفضل من قام بشرحها على الإطلاق، ومن كافة النواحي: اللغويّة، والصرفيّة، والنحويّة، والبلاغيّة، والنقديّة، والأدبيّة. بقي أن نشير إلى أن أبرز مقامات الحريري هي: الديناريّة، الاسكندرانيّة، السنجاريّة، الواسطيّة، العُمانيّة.
المقامات في رسوم الواسطي
يأتي كتاب (شيخ المصورين العرب/ يحيى بن محمود الواسطي) لمؤلفه جورج عيسى، ليغطي الجانب التشكيلي من مقامات الحريري التي نفذها هذا الفنان الكبير، وتقدمت غيرها من الرسوم التي نُفذت بعده لطبعات هذه المقامات، ما جعل من الواسطي وجهاً من وجوه عصره، وشاهداً عليه، ونقطة انطلاق لتأسيس فن جديد تخطى عصره ليصل إلينا وكأنه من الفنون المعاصرة، بما حمله فنه من قيم فنيّة وتقانيّة ناضجة ومتفردة، تستند إلى أصول حضاريّة شرقيّة عريقة.
قام الواسطي بوضع رسومه التوضيحيّة لمقامات الحريري نحو العام 634 هجري 1237 ميلادي، وهذه الرسوم (بحسب الكتاب) تُنبئ عن روح هذا المبدع الذي عبّر بالرسم عن مرحلة كاملة من مراحل يقظة الروح العربيّة، وسط النكبات السياسيّة، والتمزق الاجتماعي، والصراعات العنصريّة، وما رافق ذلك من تردٍ في القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وفي نفس الوقت، تعبّر هذه الرسوم عن مرحلة متقدمة في تاريخ التصوير العربي الإسلامي. فهي نتاج عمل مدروس، يختزل تاريخاً طويلاً من فنون منطقتنا العربيّة والإسلاميّة، إذ تحمل تأثيرات من لوحات النحت النافر الآشوري المعروف باسم (حرب في الأهوار) خاصة رسوم الأسماك السابحة بين أمواج المياه، وأشكال القوارب المملوءة بالناس. كما استعمل الواسطي شكل زهرة الأقحوان الآشوريّة وكررها ثلاث مرات على جانب زورقه، إضافة إلى تشابه تكوينات لوحاته وتكوينات النحت الآشوري النافر، يُضاف إلى ذلك وجود تأثيرات من تقاليد الفن الكلداني، خاصة الأشكال المكررة للثور والجِمال والقباب التي عالجها معمار فن النحت، وأساليب الفن المسيحي الشرقي والفارسي (الساساني) والبيزنطي، لكن الواسطي أخضع كل هذه التأثيرات لشخصيته الفنيّة، وأعاد صياغتها من جديد. أما تقانات لوحاته من أصباغ وأدوات تنفيذ، فقد اجتهد في تحضيرها بنفسه، وقام باستخدامها بكثير من البراعة والإتقان، ولعل هذا ما حدا بأحد الباحثين أن ينسب رسوم الواسطي إلى مدرسة خاصة قائمة بذاتها هي (مدرسة واسط) التي استعمل مصوروها القلم بالمداد الأسود.
خصائص فنيّة ودلاليّة
يُشير الكتاب إلى أن المدقق في عدد محدود من رسوم الواسطي، يستطيع أن ينسبها إليه، لما تحمله من طابع خاص، وما تتميز به من أسلوب مستقل، تخطى به مرحلة التقليد في التصوير العربي، وبلغ فيه درجة رفيعة من الإتقان والابتكار إذا ما قورنت بغيرها من رسوم المخطوطات. تحمل رسوم الواسطي طابعاً عربياً يظهر في الزخرفة واللباس وحيوانات البيئة، وأكثر ما يبدو هذا الطابع جلياً في ملامح عدد من شخوصه التي ميز بينها وفقاً لمكانتها الاجتماعيّة، حيث كان بينهم السلاطين والأمراء والحكام والجند والحراس وبعض الغلمان والنسوة، وقد حرص الواسطي أن يُكسب ملامح وجوه شخوص لوحاته التعبيرات المناسبة، لما يقتضيه الحال من تعجب ودهشة واستغراب وتأمل وتهديد وخيبة وأمل وغيرها، كما في لوحة المقامة (الصعيديّة). كما يُسخّر أيديها وأصابعها في تأدية لغتها الانفعاليّة. واللافت أن الواسطي لم يتقيد بنقل واقع عصره كما تُعبّر عنه مقامات الحريري بشكل حرفي، بل من خلال رؤية خاصة. فهو يتملى شريحة من شرائح الحياة اليوميّة، أو يتأمل مظهراً من مظاهر المجتمع، أو يخطف لمحة من مساق الأحداث، ليستشف من وراء كل ذلك معنى. ومن خلال روح الفنان الذي يحاول بقدر ما تمده قدرته الفنيّة على تجسيد رؤيته بوساطة الخطوط والألوان والتعبيرات والتنغيمات الزخرفيّة في الثياب والعمارة.
ما وراء القيمة الاجتماعيّة لرسوم الواسطي
صحيح أن فن التصوير كحال الأدب، كان في خدمة السلطان، لكن الأدب كان يتناقله محبوه وعشاقه والمشتغلون في صناعته، دون أن يفتقد أناساً يصوّرون في شعرهم أو نثرهم ظلم الدهر والحكام، وتهتك الخلفاء، واستهتار السلاطين، وفقر الشعب وبؤسه وشقاءه، ويغمزون أو يلغزون بسخرية إلى بعض الأحداث.
يرى الكتاب أن فن الواسطي يمثل روح القرن الثالث عشر في المنطقة العربيّة، لكن تلك الروح الفرديّة المخنوقة في بلاد الحكام. ففنه ظل أسير الطبقة الغنية المترفة، بعيداً عن متناول الشعب، فاختصت به طبقات الأشراف القليلة العدد، فكان الأغنياء وحدهم هم الذين يستطيعون الاحتفاظ بالفنان الفقير المخلص لفنه، وإخلاصاً لفنه أنتج هذه الروائع التي تتطلب الكثير من الجدة والأناة. وإذا كانت مقامات الحريري تمثل فناً من فنون الأدب العربي وكانت مجالاً واسعاً للمشتغلين في اللغة لما فيها من الصنعة وغريب اللفظ، فإنها تعرض في الوقت نفسه، لوحات تمثل المجتمع العربي أواخر الخلافة العباسيّة، وتصوّر النموذج البشري لإنسان ذلك العصر ممثلاً ببطل المقامات (أبو زيد السروجي) الذي يعيش على النصب والاحتيال والمراوغة من أجل تحقيق مآربه.
والحقيقة كان الواسطي في رسومه شاهداً على ذلك العصر الذي كان يُنذر بالتفسخ والانهيار، وواحداً من الذين عانوا محنة التمزق الذي اعتراه، وممثلاً حياً لضمير الطبقة الشعبيّة العامة المسحوقة والمتمردة في آنٍ، وقد نما الوعي العربي في أوضح مظاهره ضد الفوضى والظلم والسلطة الأجنبيّة، وغزوات المغول والصليبيين.
د. محمود شاهين