نهجت السياسة الأميركية ذات المنوال على مر السنين التي انقضت منذ تأسيس «إسرائيل» حتى تولي الرئيس ترامب الذي أحدث تغيرات جوهرية في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية لم يشهد العالم مثيلا لها منذ عهد كلنتون. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن ما حدث من تغييرات حمل في مضمونه نتائج إيجابية، وذلك على الأقل من وجهة نظر الفلسطينيين والمهتمين بإحلال السلام الحقيقي.
اتسمت اتفاقيات اوسلو التي أبرمت إبان عهد كلنتون بمبادرة دبلوماسية فلسطينية-إسرائيلية مشتركة حظيت بدعم واشنطن، وأفضت للتوصل إلى اعتراف تاريخي متبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أعقبه إقامة سلطة حكم ذاتي فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتلا هذا النوع الجديد من العلاقات جهودا دبلوماسية متواصلة قادت إلى إبرام اتفاقية واي ريفر عام 1998 وكامب ديفيد عام 2000 ومن ثم أنابوليس عام 2007 وجميعها لاقت الدعم والتأييد من قبل إدارات كل من كلنتون وبوش وأوباما.
وعلى النقيض من ذلك، اقتصرت التغيرات الدراماتيكية التي أجريت في عهد ترامب على اجراءات أميركية أحادية الجانب، حظيت بالتأييد من إسرائيل والشجب من منظمة التحرير الفلسطينية، حيث بدا التغيير واضحا في معالمه عندما اعترفت واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل عام 2018. ومن ثم وقفها لتمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين التي تعتبر هيئة مساعدة للاجئين تأسست عام 1949, علما بأن الولايات المتحدة تعتبر، تاريخيا، الممول الرئيس للأنروا التي تعمل على إنشاء وإدارة المدارس والمنشآت الطبية للاجئين الفلسطينيين في سائر أرجاء الشرق الأوسط. ولا ريب بأن وقف التمويل سيكون له أكثر من تأثير رمزي على المنظمة. وبذلك فإن ترامب بقراره هذا يكون قد ضرب عمق الاتفاقيات والتفاهمات التي جرى إبرامها بدعم أميركي كبير ليس فقط إبان فترة أوسلو، بل خلال السنوات الأولى التي أعقبت صراع ما بعد الحرب.
لا شك بأن التغيرات الدرامية التي حصلت خلال المدة التي تولى بها ترامب رئاسة الولايات المتحدة قد جاءت نتيجة نقاط الضعف في العملية التي احتفى بها كل من كلنتون ورابين وعرفات في حديقة البيت الأبيض ذات يوم مشرق في شهر أيلول عام 1993 التي حدثت نتيجة فشل مهندسي أوسلو في إرساء قواعد إقليمية للسيادة الفلسطينية أو الديمقراطية الفلسطينية. وبذلك فقد ورث ترامب مشهدا دبلوماسيا استطاع من خلاله توطيد أهداف الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان الأمر الذي بدا بشكل واضح في قيام إسرائيل بنقل أكثر من نصف مليون إسرائيلي إلى الأراضي المحتلة. ولا ريب بأن تلك الاجراءات قد أدت إلى زيادة في التعقيدات القائمة ما يجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى حل توافقي للنزاع القائم بين فلسطين وإسرائيل، ذلك الأمر الذي حظي بدعم دولي إبان أوسلو.
إن ما يدعو إليه ترامب من حيث العمل على إرساء قواعد جديدة للعبة تتوضح معالمه عبر ما يبذله من جهود ودعاية لمشروعه بشأن «صفقة القرن». أما الكونغرس الأميركي فقد عمد إلى اتخاذ مبادراته الخاصة التي تتناغم مع وجهة نظر الرئيس.
ورغبة من الإدارة الأميركية في إحكام سيطرتها، عمدت إلى إقرار «قانون مكافحة الإرهاب» الذي جرى تفعيله في العام الماضي، ويقضي بخضوع الكيانات الأجنبية التي تلقى الدعم الأميركي للمحاكم الأميركية في حال قيامها بأعمال إرهابية.
ولا شك بأن هذه الإجراءات تشكل جهودا منسقة هدفها التخفيف الدراماتيكي إن لم يكن الهدف الأساس منها وقف مليارات الدعم الأميركي المقدم إلى السلطة الفلسطينية. وبشكل عام، فإن الأغلبية في الحزبين الرئيسين في واشنطن قد أبدوا عدم رضاهم عن استمرار تقديم الدعم لهذا النوع من العلاقة الفلسطينية -الإسرائيلية التي حددتها حقبة أوسلو.
في ظل هذا الواقع، يكتنف الإسرائيليون شعورا بإمكانية تعزيز قبضتهم على الضفة الغربية والسيطرة على الدولة الفلسطينية. أما على الساحة السياسية الإسرائيلية فقد تم إنهاء كافة أنواع الدعم في كل مكان في فلسطين. إذ بدا على نحو واضح بأن نتنياهو الذي استمد التشجيع من التصرفات الأميركية قد تخلى عن فكرة إقامة الدولتين. كما أن البيان الصادر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية في الشهر الفائت (الذي يقضي بإنهاء أعمال البعثة الدولية المؤقتة في الخليل) أعطى الدليل على العداء المتجدد لما جرى إبرامه إبان أوسلو. على الرغم من أن نتنياهو قد سبق وأن أبدى موافقته على اتفاقية واي ريفر عام 1998 ودعم وجود هؤلاء المراقبين.
منذ ذلك الحين لم يجر أي اتفاق رسمي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن قرار الرئيس الأميركي الأحادي الجانب الذي يقول بسحب تجديد التفويض للوجود الدولي المؤقت في الخليل يعتبر جزءا من الأمثلة الأخيرة المتعاقبة التي تعكس التأثيرات العملية لما يتخذه ترامب من إجراءات.
يسعى الفلسطينيون لاقتناص الفرص في ضوء ما يحدث من مستجدات، حيث نجد أن الرئيس محمود عباس قد انتهت مدة ولايته منذ أمد طويل. لكن الدعم الأميركي حال دون ذلك، وأتاح له تجنب عقد انتخابات للرئاسة الفلسطينية عام 2005 والمجلس التشريعي عام 2006.
ما يخيب الآمال في حدوث انفراج في الأزمة القائمة ما صدر من تصريحات أطلقها الرئيس الفلسطيني التي هدد بها بوقف التعاون الأمني الأساسي مع إسرائيل ذلك الأمر الذي أبرم إبان أوسلو نتيجة الالتزامات القانونية التي وضعتها الولايات المتحدة كشرط لتقديم المساعدة إلى القوات الأمنية الفلسطينية. وفي هذا السياق، قال المسؤول الفلسطيني البارز صائب عريقات لوكالة فرانس برس بأن «التمويل سيقطع، وإننا لا نرغب بتلقي أية أموال في حال كانت ستقود بنا إلى المحاكم الأميركية»
سبق لمحمود عباس أن اطلق تهديدا بوقف التعاون الأمني مع إسرائيل. لكن الالتزام المتبادل بالمحافظة على الشراكة الأمنية ستفضي إلى إرغام واشنطن على إيجاد حل بديل بهدف إبقاء الدعم الأميركي للأجهزة الأمنية الفلسطينية، الأمر الذي يعتبر أساسيا في أحجية أوسلو التي ما زال ينظر إليها الطرفان باعتبارها اتفاقية هامة ولاسيما في ضوء عدم وجود أي اتفاق آخر بديل لها. ولا ريب بأن تدمير قواعد أوسلو سيفتح الباب على حقبة جديدة تحمل في طياتها تداعيات وتبعات محفوفة بالمخاطر.
ترجمة: ليندا سكوتي
the American Conservative
التاريخ: الجمعة 15-2-2019
رقم العدد : 16910