الملحق الثقافي-د. محمود شاهين:
بدأت الأبحاث والدراسات الأكاديميّة الراصدة والمحللة، لعلاقة الأدب عموماً، والشعر منه خصوصاً، بالفن التشكيلي، تزداد يوماً بعد يوم، ما يؤكد عمق وقدم هذه العلاقة، وهو أمر طبيعي إذا ما علمنا أن (الفن التشكيلي) و(الشعر) يتحدران من صلب أسرة واحدة هي (الفنون الجميلة). وعملية التأثير والتأثر والتداخل بين اللغات الإبداعيّة المتعددة وسائل التعبير، ازدادت في وقتنا الحالي، بحيث بتنا نرى في المنتج الإبداعي الواحد، أكثر من لغة تعبيريّة، وأكثر من تقنيّة، بهدف تعميق التعبير فيه، خاصة بعد أن توفرت للمبدع، بفضل التطور التكنولوجي المذهل، أدوات ووسائل تعبير جديدة، طاولت حواضن الإبداع المختلفة.
___________________________________________________________
إضافة جديدة
(الشعر العباسي والفن التشكيلي) كتاب من تأليف الدكتورة وجدان المقداد، تضمن دراسة مقارنة جديدة ولافتة، حول التأثير المتبادل بين (فن الشعر) و(الفن التشكيلي) حاولت من خلالها الكشف عن بُنى الصور الشعريّة المكونة للمشاهد الفنيّة في النص الشعري، وإظهار التكوينات اللغويّة والإيقاعيّة والدلاليّة التي تُنتج إشارات أو رموزاً، أو إيحاءات، أو تلوينات، تمنح هذه الصور خصوصيتها الفنيّة والجماليّة، وتجمعها مع الفنون الأخرى، علاقات مرتبطة بالذات المبدعة ومحيطها، أو بصيغها الجماليّة، أو بأساليبها الفنيّة،
عري، وإظهار التكوينات اللغويّة والإيقاعيّة والدلاليّة التي تُنتج إشارات أو رموزاً، أو إيحاءات، أو تلوينات، تمنح هذه الصور خصوصيتها الفنيّة والجماليّة، وتجمعها مع الفنون الأخرى، علاقات مرتبطة بالذات المبدعة ومحيطها، أو بصيغها الجماليّة، أو بأساليبها الفنيّة،
كي تكون شيئاً جميلاً، وأهم مقومات الشيء الجميل هو النظام الداخلي الذي تُبنى عليه.
لماذا الشعر العباسي
أما لماذا اختارت الباحثة المقداد الشعر العباسي مجالاً تطبيقياً لبحثها، فتعيده لعاملين اثنين: الأول هو العامل الفني الثقافي والفكري والحضاري الذي تميز به العصر العباسي. فقد تم التمازج الهائل بين الحضارة العربيّة الإسلاميّة والحضارات الأخرى التي انتشر الإسلام فيها أو لم ينتشر، حيث اتسعت الرؤى الثقافيّة، وانطلقت إلى آفاق جديدة، فظهرت نتيجة ذلك، نزعات عقليّة وعقيديّة واجتماعيّة متعددة، كما ظهر اهتمام واسع بالفنون التشكيليّة نتيجة حتميّة للتطور الحضاري، والرفاهيّة الاقتصاديّة اللذين اتصفت بهما دولة العباسيين. والعامل الثاني، قضايا التجديد التي طرأت على الشعر العربي القديم، والارتباط الوثيق بين هذه القضايا وأسماء شعراء العصر العباسي الذين شُغلوا بقضية التجديد في القصيدة العربيّة كي تكون قادرة على التعبير عن المجتمع الجديد وحاجاته، كما فعل بشار بن برد. وقدم آخرون تشكيلات فنيّة جديدة في بنية الصور الشعريّة، كما فعل البحتري وأبو تمام. وحاول المتنبي أن يصوغ شكلاً شعرياً قادراً على احتواء الثقافات العقليّة المعقدة التي انتشرت آنذاك، محافظاً على صور جماليّة راقية للشعر العربي. وعمل المعري على المزاوجة بين الشعر والفلسفة، حين أخضع اللغة لهما ليرتقي بالنص الشعري إلى مستويات إنسانيّة وعقليّة رفيعة.
بين الفن والشعر
تطل الباحثة المقداد على موضوعة بحثها بالوقوف عند المصطلحات المتماهية بين الفن والشعر، فتشير إلى أن الفن يشمل المجالات الإبداعيّة الإنسانيّة كلها، المتجسدة بالتعبير الجميل، عن حركة الذات الواعيّة المجربة: باللون، أو اللفظ، أو الحركة، أو الشكل، أو النغم. والأدب (ومنه الشعر) أحد النشاطات التي تعكس صورة حقيقيّة لذلك. وترى أن الأدب هو رأس الفنون الجميلة، والشعر منه على وجه الخصوص، يستأثر بمميزات الفنون الجميلة كلها. فهو بالإضافة إلى مادة الفن الأدبي. أي ألفاظ اللغة، يشتمل على عناصر سائر الفنون الأخرى: كالموسيقى، والوزن، والقافية، والإيقاع، وصور حسيّة ومعنويّة، تصطبغ مشاهدها بالألوان والأشكال والحركة والعاطفة، وهي وسائط الفنون التشكيليّة المختلفة من رسم وتصوير ونحت.
وتؤكد الباحثة المقداد على التبادليّة القديمة بين الفنون جميعاً، فمئات من الشعراء والفنانين التشكيليين قد تبادلوا الأثر والتأثير، فاستلهم الشاعر اللوحة والنقش والتمثال والزخارف، وسجّل إيحاءات ذلك في قصائد، كما استوحى الرسام والمصوّر والنحات والبنَّاء قصائد شعريّة، فرسم وصوّر ونحت ما قدمه الشاعر في كلماته وأوزانه، لأن مصدر هذه الفنون هو الإنسان.
ملامح الفن التشكيلي في الشعر العربي القديم
ترى الباحثة المقداد أن القصيدة الشعريّة، بوصفها الفن اللغوي الجمالي الأول، تستطيع بوسائلها اللغويّة والإيقاعيّة، أن تنقل للمتلقي ما تمثله الصور الواقعيّة بصفاتها العينيّة، أو التجريديّة، إلى شكل فني متميز هو القول (الشعر) حيث نرى النص لوحة مرسومة بالكلمات بتقانات إيقاعيّة بديعة، تمثل اللون، والحجر، والخطوط وغيرها من الوسائل والتقانات المختلفة، التي تُلزم الفنون التشكيليّة المتنوعة الأخرى. وقد كان للفنون الجميلة حيز هام في حياة العرب، وقد عرّفوها باصطلاح (الآداب الساميّة الرفيعة) وهي: الشعر، الموسيقى، التصوير، الغناء. لكن اهتمامهم بها لم يكن تعبيراً عن حالة وجدانيّة فنيّة بقدر ما كان تعبيراً عن حاجة فكريّة عقائديّة. وللتدليل على تماهي (الشعر) و(الفن التشكيلي) نرى أن تشبيهات الجاهليين وصورهم الفنيّة في أشعارهم، كانت مليئة بالمفردات التشكيليّة مثال ذلك قول الأعشى:
كَدُميَةٍ صُوّرَ محِرابُها/ بمُذهبٍ في مرمر مائرِ
وقول النابغة:
أو دُميَةٍ في مرمر مرفوعةٍ/ بُنيت بآجرٍّ يُشاد بقرميدِ
وقول الأعشى:
وَشَغاميم جسامٍ بُدَّنٍ/ ناعماتٍ مِن هوانٍ لم تُلَح
كالتماثيل عليها حُلكٌ/ ما يوارين بطون المكتشح
غير أن طبيعة حياة التنقل والترحال التي عاشها العرب في ذاك الزمن، لم تسمح لهم التعاطي مع الفنون التشكيليّة، الأمر الذي جعل الشعر يحل محلها ومحل كثير من الفنون وقام مقامها، ولعل من أبرز اللوحات التشكيليّة في أشعارهم هي لوحات تصوير الحيوان الذي ارتبط وجوده بوجودهم، والشعر خصوصاً، هو اللون الذي تقبله العرب منذ جاهليتهم أداة فنيّة، وارتضاه المسلمون بعد ذلك، أما ألوان الفن الأخرى فقد كانت مهملة إلى حدٍ كبير. وبعد أن تستعرض الباحثة ملامح الفن التشكيلي في الشعر الأموي، تنتقل إلى المؤثرات في التشكيل الفني في الشعر العباسي الذي جاء نتيجة التمازج الثقافي وتفاعلاته مع الأمم الأخرى كالإغريق والفرس والهنود.
الفن التشكيلي في الشعر العباسي
ترى الباحثة المقداد، أن الشعر العباسي تمثل الفنون التشكيليّة (على اختلاف أنواعها) واتخذها أدوات إجرائيّة بنى من خالها صوره الشعريّة، بعد أن تغذى من روائع الآفاق التي دخلها الفاتحون في أرض المشرق خاصة، وبتأثير فنون أهل الذمة الذين تعايشوا مع المسلمين. ولعل من أهم العوامل التي أغنت الشعر العباسي بفن التصوير، ثراء العصر الذي نوجد فيه، وإبداع الأغنياء لوسائل ترفهم، حيث أثروا مجالسهم ودورهم وقصورهم بالأواني المزخرفة، المصوّرة، والملابس المزينة بأنواع شتى من الصور. وبات التصوير على الجدران من أهم أنماط التزيين لديهم، فتسرب الفن رويداً رويداً إلى الحياة العامة والخاصة في هذا العصر، وأصبح المصوّرون يتدفقون على قاعات الخلافة طمعاً بالمال والمكانة، فقد اتخذوا التصوير سبيلاً للرزق، من ناحية، وحالة فنيّة معبّرة، تجسد رغبات داخليّة، من ناحية أخرى، الأمر الذي حوّل الشعر العباسي إلى فن تصويري، والتصوير إلى فن شعري عباسي. ولأن أهم ما يُقدمه الشاعر تصويره للواقع المحيط به، فقد تسربت العمارة إلى الشعر العباسي، وكذلك الزخرفة، والخط العربي، والحِرف والمشغولات، والنحت.
عناصر التشكيل المشهدي
ترى الباحثة المقداد أن كل عمل فني لابد له من بنية وتشكيل يُعدان بمنزلة المظهر الحسي الذي يتجلى من خلاله الموضوع الجمالي، وتضح عبره حركة العمل الفني الداخليّة ومدلولاته الإيحائيّة والمعنويّة. وتحدد الباحثة ثلاثة عناصر تدخل في هذه العمليّة هي: اللغة الشعريّة، الألوان، والزمان والمكان. فالشعر مادته الكلمة، والموسيقى مادتها الصوت، والرقص مادته الحركة، والنحت مادته الحجارة أو المعادن، ولكل منها أسلوبه في التعبير، بدءاً من الأسلوب الكلاسيكي الذي يعتمد على التصوير بالحقيقة، ومثاله قصيدة ابن الرومي (الحمّال الأعمى). والأسلوب الساخر الذي استخدم حديثاً في الرسم والتصوير فيما يُعرف بفن الكاريكاتير، وقد اشتهر بهذا الأسلوب ابن الرومي في العديد من أشعاره، ومنها وصفه لأنف كبير بقوله:
حملت أنفاً يراه الناس كلهم
من رأس ميل عياناً لا بمقياس
لو شئت كسباً به صادفت مكتسباً
أو انتصاراً مضى كالسيف والفاس
وهناك الأسلوب الرمزي الذي ظهر في قصائد الشعراء العباسيين الذين انفتحوا على الحضارات الأخرى وثقافاتها، فأخذوا بذلك دور السورياليين في رسم لوحاتهم. من الشعراء الرمزيين: أبو تمام، والشريف الرضي، والشاعر الأعمى بشار بن برد الذي صوّر المرئيات في شعره اعتماداً على إحساسه الداخلي والتخيل والوهم ومن شعره:
حوراء إن نظرت إليك
سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كُسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
أما التشكيلات الأسلوبيّة في المشاهد الشعريّة العباسيّة، فتصنفها الباحثة المقداد بالتشكيل اللغوي، والتشبيهي، والإيقاعي، والبديعي. وتنتهي إلى خلاصة مفادها، أنه انطلاقاً من الإحساس الجمالي في أي عمل فني: قصيدة شعريّة كانت، أم لوحة، أو قطعة موسيقيّة، أو تمثال منحوت، لا يتعلق بالشكل المنفصل عن مضمونه، إنما يتعلق بالتركيب الخاص للمستويات المتنوعة التي تؤثر في بنيته محددة بذلك أربعة أقسام منفصلة للنتائج التي توصلت إليها:
القسم الأول: المفهومات والأبعاد النظريّة التي انطلق منها بحثها، من حيث علاقة الفن التشكيلي بالشعر عموماً، والنظريات التي عالجت ذلك.
القسم الثاني: العوامل التي أفرزت صورة مختلفة للشعر العباسي عما سبقه.
القسم الثالث: تحديد الخصائص التي رشحت عن العلاقة بين الفنون التشكيليّة المختلفة والشعر العباسي.
القسم الرابع: مدلولات دراسة الأساليب الشعريّة العباسيّة التي حددتها المستويات التركيبيّة، والتأثيرات اللغويّة والدلاليّة والصوتيّة في بناء اللوحات الشعريّة وعلاقة ذلك بإنتاج صورة شعريّة جديدة لها جماليتها الخاصة. فقد حقق الشاعر العباسي المُجدد الشعريّة في صورته، ومنحها جماليّة خاصة من خلال عنايته بالمستويات المتعددة لتشكيلاته الفنيّة على صعيد: التركيب، الصورة، الإيقاع، والدلالة التي بُنيت على المشاكلة والاختلاف بديعياً، والانزياح عن المألوف لغوياً، والثوابت والاختراقات إيقاعياً، وبالتالي فإن موطن الجمال في الصورة الشعريّة العباسيّة، يكمن في تصاهر تلك العناصر المكوّنة لها، وتماهيها قي بناء لغوي صوري متكامل عبّر عن تشكيلها الفني، وبالتالي أثر الفن التشيلي فيها.
التاريخ: الاثنين26-2-2019
رقم العدد : 16918