ما أكثر الماضي يجيء غداً!!

الملحق الثقافي-سامر منصور:

زلزلت الأرض.. تصدعت صروح المدائن.. أيريس تجادل جميع الآلهة أن هبوا فرصةً لبني البشر ولا تهبوهم للعذابِ والزوال.. زيوس يقول ملأ فمهِ (أيريس(1) ، مارس(2) ليتخذ كلٌّ منكما لهواً من لدنه، وذرا بني البشر للفناء فلا خير فيهم ولن ينصلح حالهم.. ما هم إلا خطأ ارتكبتهُ بحق جمال التكوين وجلال الخلق ونبض الحياة.. وها أنا ذا زيوس(3) العظيم أعترفُ بخطأي الأول والأخير وأرجفُ الأرض وأقصفُ من السماء كي يتطهر ما بينهما من صنيعتي المشوهة التي امتطت غرورها وخاضت سَبَقاً نحو العبث والجنون).
أطرقت الآلهة رؤوسها، وقد اعترف كبيرها بخطئه.. جاء مارس بالسلاح العظيم، ورفع نبتون(4) أمواج البحار عالياً، وجاءت آلهة الرياح بالأعاصير الضاربات النازعات، ونادى زيوس الشُهب من عمق الفضاء فلبت وضجّت في سباقٍ نحو المدائن، حتى أبولو(5) قطع أوتار قيثارته النورانية ووزعها على الآلهة فوتروا بها كلَّ قوسٍ مَهيب وتأهبوا ليمطروا البشر بنبالهم الثقال النافذات.. ومن بين عرائش الفردوس في ذرى الأولمب أطلَّ على الأرض أرسطو وطاغور وبوذا وسوفوكليس وجبران وابن سينا وكانط وهوغو وهيغل وماركس وتسلا، والحزن يقطر من قسماتهم على ما سيحوق بأبناء جلدتهم من عذاب، ارتفع نشيج تلك الصدور حتى ملأ على زيوس مسامعهُ، التفت زيوس إلى الحزانى الخالدين وقال:
(تعلمون أنكم كنتم أصابعي على الأرض أفتش بها عن خيرٍ أنتشلُ به بني البشر من جنونهم الدامي ولم أجد إلى ذلك سبيلاً.. البشر يفتكون بالبشر، البشر سيفنون أنفسهم.. ورحمة ً من لدني، وأنا الرحيم، سأعجل لهم بالفناء).
وإذ بها تتهادى هبوطاً بين السحاب مينيرفا(6).. (يا زيوس العظيم، إن أذنت لي سأصلح حال البشر).
أجاب زيوس بصوتٍ مشبعٍ بالدهشة.. (هل إلى ذلك من سبيل؟!.. ألم يسمعوا بحكاية جلجامش؟.. ألم تقع أعينهم على ما رواه فولتير عن كانديد؟! ما من شيء أصلح حالهم يا مينيرفا.. ولكِ أن تجربي ولنا الفضول يعترشُ ويفترش بين مسامعنا وأبصارنا).
دخلت مينيرفا المدائن مدينة مدينة والقرى قرية فقرية وطافت على البشر الواحد تلو الآخر، تصفع بصولجانها النواصي حتى يخرج وحلٌ من المسامع والأبصار والآذان والحناجر.. وكان الوحل يتكور ثم يتطاول ويزحف كديدانٍ تتحد في جسدٍ هائلٍ يتجسم رجلاً مارداً قبالة البحر، رجلاً له أصوات الأولين، ووجهٌ متغضنٌ يطفحُ بالسخط والألم.. كان لذلك الدبق المَريد أذرعٌ كثيرة وكان يكره الشمس.. فألقى ظله الطويل على الأرض.. كان يكره البحر.. وأخذ يصفعُ بأذرعهِ أمواج البحر، فيردها عن الشاطئ. دخلت مينيرفا المكتبات وأضرمت فيها النار، وذرت رمادها في ريحٍ صرصر.. ثم ناجت زيوس أن يقذف ذلك المارد القبيح في قبضة الفناء، ففعل.. وهابت أن أرسل أصابعك مجدداً وابحث عن الخير والسلام تجدهُ يا زيوس العظيم).
عم الخير والسلام المدائن.. وباتت القطط والطير والأنسُ يأكلون من ذات الأطباق، وما أضرمت نارٌ إلا لطهوٍ أو صناعة، وما شرّعَ سلاحٌ بين مدينتين.. وذات مساء سأل زيوس مينيرفا عما فعلت وعن ذلك الوحل الذي أخرجته من رؤوس البشر.. فأجابت: (إنه الماضي يا زيوس العظيم.. أخرجت الماضي من عقولهم، فما وجدوا بين أيديهم سوى حاضرهم وحضارتهم القائمة الآن بينهما، فاتحدوا ونزعوا تلك الرايات الخافقات على الصواري، وكسوا بقماشها العراة منهم، وما ملكت أمةٌ إزاء الأخرى سوى الإعجاب بما بين أيديهم.. لقد جعلتهم يمتلكون الحاضر عوضاً عن أن يمتلكهم الماضي.. ما كانت لتكتب لهم النجاة لولا أن بددت ذلك الوحل العجيب الذي كان يمنع البحر المتوج بالشمس من مخاطبة التراب).
……

العنوان مستقى من محمود درويش.
(1) آلهة النزاع والصراع.
(2) إله الحرب.
(3) رب الأرباب.
(4) إله البحر.
(5) إله الشمس والشعر والموسيقى.
(6) ربة الروح الأعلى المقدس، ربة الحكمة.

التاريخ: الاثنين26-2-2019

رقم العدد : 16918

آخر الأخبار
مخبز بلدة السهوة.. أعطاله متكررة والخبز السياحي يرهق الأهالي عودة الحركة السياحية إلى بصرى الشام خبير اقتصادي لـ"الثورة": "الذهنية العائلية" و"عدم التكافؤ" تواجه الشركات المساهمة اشتباكات حدودية وتهديدات متبادلة بين الهند وباكستان الرئيس الشرع يلتقي وزير الزراعة الشيباني أمام مجلس الأمن: رفع العقوبات يسهم بتحويل سوريا إلى شريك قوي في السلام والازدهار والاقتصاد ... "الصحة العالمية" تدعم القطاع الصحي في طرطوس طرطوس.. نشاط فني توعوي لمركز الميناء الصحي  صناعتنا المهاجرة خسارة كبيرة.. هل تعود الأدمغة والخبرات؟ ترجيحات بزيادة الإمدادات.. وأسعار النفط العالمية تتجه لتسجيل خسارة تركيا: الاتفاق على إنشاء مركز عمليات مشترك مع سوريا "موزاييك الصحي المجتمعي" يقدم خدماته في جبلة تأهيل طريق جاسم - دير العدس "بسمة وطن" يدعم أطفال جلين المصابين بالسرطان اللاذقية: اجتماع لمواجهة قطع الأشجار الحراجية بجبل التركمان درعا.. ضبط 10 مخابز مخالفة تربية طرطوس تبحث التعليمات الخاصة بامتحانات دورة ٢٠٢٥ مُنتَج طبي اقتصادي يبحث عن اعتراف سوريا أمام استثمارات واعدة.. هل تتاح الفرص الحقيقية للمستثمرين؟ دعم أوروبي لخطة ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا