مَعَ تعدُّدِ مظاهرِ وأسبابِ ودواعي وتداعيات الأزمة في سورية، فقد تفاوتت مواقفُ الأدباءِ والمثقَّفين، وهذا وارد، لكن هذا لا ينفي أن يكون لهم موقف جاد وحقيقي في الأزمة، ومنها، ولا أجانب الحقيقة إذ أقول، إنَّ المواطن السُّوريَّ قد صُدِمَ ببعضِ من نخبة مثقفيه وأدبائه في هذه الأزمة، والذين كان يعتبرهم من نخبة المجتمع السوري، ولكنَّ الأزمة من جهةٍ أخرى، ظَهَّرَتْ بعضَ المواقفِ المَسؤُولَة والجادَّة ونُمُوُّ طبقة من «المتثقفين» الذين حاولوا الإدلاء بدلوهم في الحوار والجدل القائمَين اليوم في المجتمع السُّوريِّ، لكنَّ أهمَّ ما يميِّزُ المرحَلَةَ، ظهورُ جيلٍ منَ الشَّبابِ المُثَقَّفِ الواعي المسؤولِ الناضِجِ، والذي برهن على الوطنية وحُبِّ البلد بالعمل والتضحية.
«الأزمة السورية»، أو قل: «الحرب على سورية», كما تصحُّ تسميتها أيضاً، هي أزمة مركبة معقدة، ذات أوجه ومسببات ودوافع عديدة، ولها مظاهر وتجليات ونتائج كثيرة، ولها حوامل وروافع يصعُبُ التكهُّنُ بها وحصرها وتحديدها، فهي أزمة مجتمعية، وهي أزمة سياسية، وهي أزمة خارجية، وهي حراكٌ كانَ ليكون طبيعياً، لولا التَّدَخُّلُ الخارجيُّ الغريبُ، والاستعانة بالعابث والممول.
وهي بكل هذه المعاني والتجليات، أزمة وطن، وأزمة فكرٍ وثقافة بكل ما للكلمة من معنى: فهي أزمة فكر وطني، لجهة اختلاف أبناء الوطن الواحد على «مفهوم الوطن»، وهي أزمة فكر إسلامي لجهة الاختلاف على مبادئ الشريعة الإسلامية الغرَّاء وتعاليم الإسلام الحنيف المتسامح الإنساني والابتعاد عن فكر ورسالة النبي الأكرم، وهـي أزمة «نظام»، إن صحَّ التَّعبيرُ، لجهةِ أنَّ أيِ نظامٍ يجبُ أن يُجَدِّدَ ويُطَوِّرَ ويُحَدِّثَ من آليَّات عمله وفكره وحوامله وعناصره وتقنيات التعامل مع تطور المجتمعات الحتمي، وهي أزمة عالميَّةٌ لنِظَامٍ عالميٍّ ينحُو إلى الشر والطغيان والهيمنة، وهي أزمة فكرٍ قوميٍّ بين دول «عربية» تخلَّتْ عن بلدٍ شقيقٍ لجهةِ فكرة «تغيير نظامِهِ»، وهي أزمةٌ عروبيَّةٌ شاملةٌ ابتعدَتْ عن الفكرِ القَومِيِّ العربيِّ الإسلاميِّ التَّعدُّدي، فضاعت الأفكار العادلة بالتَّغيير، في حمأة الفوضى المفروضةِ من الخارج بحجَّةِ تغيير الأنظمة، ثمَّ ما هو البديلُ عن تغيير الأنظمة؟ إنها أنظمة رجعيَّةٌ أصوليَّةٌ عميلةٌ مرتهنَةٌ للخارج الدخيل المعتدي. بلى، هي أزمة متعددة، حمَّالة أوجه، ربما سيصعب الإحاطة بها في مستقبل منظور. وإن كانَ ثمَّةَ سبيل للحلِّ، فهي بالوعي الكامل لكلِّ هذه الأسباب مجتمعةً، ثمَّ التَّوقَّفُ عند كل منها مليّاً، وبالتصالح والانفتاح على الآخر الوطني، والتسامي فوق الجراح، والبدء بإعادة بناء الإنسان والوطن، ومفهوم المواطنة، ورأب الصدع، ولملمة الجراح، وردم الهوة بين أبناء الوطن الواحد، وإعادة توجيه البوصلة العربية والقومية إلى العدو الواحد.
وكثيراً ما يطرح مصطلح الحوار، ذلك المصطلح الذي يبدو وكأنه طرح «عمداً» في زمان غير زمانه، وأوان غير أوانه، وتوقيت غير توقيته، تماماً «كالربيع العربي» مع التحفظ على المصطلح، الحوار الذي تتعطش له الأنظمة والشعوب على حد سواء، ولكن أي حوار وبأي أسسٍ؟ إنه ذلك الذي يقوم على أسس وطنية واقعية تحترم الآخر الشريك الفعلي بالوطن، وعلى أسس تحترم دماء الأبرياء التي كانت وقوداً لما جرى ويجري على أرض سورية، وأي محاولة لرفض الحوار أو عرقلته أو تأخيره، ستنعكس سلباً على أرض الواقع وتطيل عمر الأزمة ومعاناتنا نحن الشعب السوري، وهذا يعني أيضاً أننا ذاهبون إلى انقسام وطني خطير، يعززُ الفُرقَةَ في الرَّأيِ والموقف بين أبناء الوطن الواحد، ناهيك عما يتسبب به من آلام للشعب السوري.
إن الإنسان السوري في الداخل أو في الخارج، يجب أن تكون بوصلته الأساسية الوطن، والحرص على وحدة شعبه وأراضيه، وبالتالي فالثقافة الوطنية الجامعة، هي تلك التي تجسد هذه المكونات الجامعة، والتي تنعكس بالخير على الوطن وأبنائه، لجهة الوحدة دون الانقسام، ورأب الصدع دون الفرقة، ونشر قيم المحبة دون التنابذ، ثقافة تعود بنا إلى قيم الإنسان السُّورِيِّ الأوَّلِ على هذه الأرض، وكيف اجترح الحضارات وقدَّمها للبشريَّة.
إن في سُّوريَّة، وقد أرخَتْ بظلالها على كل شيء، لم يتبقَّ سوى الكلمةِ لكي تفعَلَ فِعْلَها، وحسب ما نلمسُ، فإنَّ الناسَ تتفاعلُ مع الكلمة الصَّادقةِ الجَادَّة، التي تعبِّرُ عن موقِفٍ حَقٍّ، وهم مُتَعَطِّشُون لكل ما يُحيي العقولَ بعد جفافها لدى الكثيرين، وعليه فالجميعُ مدعُوُّون، من حَمَلة الأقلام والفكر والرأي، إلى الاستمرار في الكتابة الواعية الجادَّةِ المثمرة، تنويراً وإعمالاً للعقل، وتثويراً للواقع، توثيقاً وتدويناً واستخلاصاً للعبر واستشرافاً للمستقبل…بهذا ننحو نحو سورية ناهضة من الرماد إلى فضاء الحضارة والإنسان.
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 15-3-2019
رقم العدد : 16932