الثورة – هنادة سمير:
في عام 1946، وقف السوريون موحدين، رافعين راية الاستقلال بعد سنوات من النضال ضد الاستعمار.. كانت تلك لحظة تاريخية، حين أعلنت سوريا سيادتها، وغادرت آخر قوات الاحتلال أراضيها، لكن السوريين، الذين حلموا بوطن حر مزدهر، واجهوا عقبات داخلية قوضت تلك الأحلام، فالنظام الاستبدادي، الذي سيطر على مقاليد الحكم لعقود، حول الاستقلال إلى شعار باهت، واستبدل الاحتلال الأجنبي بقمع محلي أجهض طموحات الأجيال.
وعندما انطلقت شرارة الثورة السورية عام ٢٠١١، لم تكن مطالب المتظاهرين تختلف عن تلك التي رفعها أجدادهم ضد المستعمر الفرنسي: حرية، كرامة، عدالة. لكن النظام البائد حوَّل الحلم إلى كابوس، باستخدام القوة المفرطة، واستقدام مليشيات متعددة، وتحويل البلاد إلى رهينة في يد أطراف إقليمية.
اليوم.. بعد أكثر من سبعة عقود، وبعد سقوط شرعية النظام سياسياً وعسكرياً تعيد سوريا كتابة معنى الجلاء من جديد، ويستعيد عيد الجلاء بريقه كرمز للإرادة الحرة، لشعب صمد في وجه الحروب والظلم، ويحتفل الآن بحرية مزدوجة.. حرية الوطن من الاحتلال الخارجي وحرية المواطن من الاستبداد الداخلي.
لكن سقوط النظام، لا يعني بالضرورة اكتمال الجلاء، فالثغرات قد تظهر حين تتهافت القوى الدولية، وتعلمنا التجربة التاريخية أن الجلاء الحقيقي يبدأ بإرادة الشعب، فكما طرد السوريون الفرنسيين بقوة الوحدة الوطنية، يمكنهم اليوم إعادة بناء الدولة عبر توافقٍ وطني، يُرسي دعائم المواطنة، هنا سيكون الجلاء الجديد تحرراً ليس فقط من النظام المستبد، إنما من التبعية لمراكز القوى الخارجية التي استغلَّت الحدث لتمرير أجنداتها.
بهذا المعنى يصبح الجلاء عملية مستمرة من المقاومة ضد كل أشكال الهيمنة. وانتصار سوريا بمعناها الحضاري يكتمل ببناء عقد اجتماعي جديد يُعيد للسيادة معناها، وللشعب كلمته.. وسيتذكَّر السوريون حينها أن الجلاء الحقيقي لم يكن مجرد رحيل جيش محتل، بل هو انتصار إرادة شعب رفض العبودية داخلياً وخارجياً.