الثورة-أسماء الفريح:
أكد تحقيق مطول أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية أن جرائم نظام المخلوع بشار الأسد المروعة لم تقتصر على معارضيه، بل تحولت إلى سياسة قمع شاملة استهدفت كل شيء حي في سوريا بما فيهم الأطفال الذين غيبت أعداداً كبيرة منهم قسراً مستخدمة دور الأيتام كغطاء.
يقول التقرير الذي أورده موقع العربية الحدث: “لم يسلم المدنيون ولا الأطفال من صراعات الكبار، في أقبية المخابرات الجوية والسجون السرية، تعرض الصغار للتحقيق والتعذيب والاختفاء القسري” , مضيفاً أنه “وعلى مدى 13 عاماً، سُجن الآباء، وخُطف الأبناء، وحُولت براءة الطفولة إلى أداة قمعية.. وبعد سقوط الأسد، كشفت الحقائق أن حجم المأساة يفوق التصور، وأن عدد المعتقلين والمخفيين قسراً يتجاوز ما ارتكبه النازيون في الحرب العالمية الثانية”.
يتحدث تقرير الصحيفة عن مأساة الطفلة السورية ليلى غيبس، البالغة من العمر ثماني سنوات، ويقول: “في إحدى ليالي آب 2015، جلست ليلى، على أريكة معدنية في غرفة استجواب باردة بمطار المزة العسكري بدمشق، تتدلى قدماها على الأرض، وبجوارها شقيقتها الصغرى ليان، في الرابعة من عمرها”.
ويتابع: ” طرح ضابط من المخابرات الجوية السورية على ليلى أسئلة مربكة عن زيارات عمها وصلاته العائلية، بدا وكأنه مصمم لدفعها نحو الاعتراف بما لم يحدث.. لم يكن في ذهن الطفلة سوى العودة سريعاً إلى زنزانتها المظلمة حيث أمها”.
ويضيف: ” كانت تلك اللحظة بداية رحلة مأساة اختُزلت فيها معاناة آلاف الأطفال السوريين الذين وجدوا أنفسهم في قلب أقبية النظام، بين التعذيب النفسي والحرمان من الهوية، وصولاً إلى الإخفاء القسري داخل مؤسسات رعاية مرتبطة بالدولة”.
ويقول التقرير: “تجسد قصة ليلى وعائلتها مأساة متشابكة بدأت باعتقال العائلة على حاجز قرب دمشق حيث سُحب الأب مصعب معصوب العينين إلى زنزانة انفرادية، ووضعت الأم أمامة مع طفلتيها في قبو رطب تفوح منه رائحة العفن والجثث المتحللة، وهناك حاولت أمامة إلهاء ابنتيها بقصص عن الجبال السحرية وألعاب بذور الزيتون، بينما كان صدى صرخات الرجال تحت التعذيب يتردد كل ليلة في الممرات”.
ويتابع التقرير “كتبت ليلى على باب الزنزانة كلمة “بابا” بقلم تلوين أصفر، في محاولة طفولية للتشبث بصورة الأب الغائب.. واجهت الحقيقة القاسية حين أخبرتها أمها أن الضباط سيأخذونها مع شقيقتها، وأنها ربما لن تراهما ثانية، موصية إياها بأن تكون أماً صغيرة لأختها، وألا تنسى اسمها وعائلتها مهما حدث”, مبينا أنه “بعد يومين، نُقلت الطفلتان من السجن إلى دار أيتام تابعة لمنظمة قرى الأطفال الدولية (Children’s Villages SOS)، حيث بدأت فصول أخرى من طمس الهوية والانفصال عن الجذور”.
وتكشف وثائق حصلت عليها “نيويورك تايمز” بعد سقوط النظام أن ما جرى مع ليلى وشقيقتها لم يكن حالة فردية، بل سياسة ممنهجة، وتشير الصحيفة إلى أنه” منذ عام 2013، اتخذت المخابرات الجوية قرارات سرية بنقل أطفال المعتقلين السياسيين إلى دور أيتام، وكُلفت وزارة الشؤون الاجتماعية أو المحافظون بتنفيذ التعليمات.. لم تكن هذه العملية عشوائية، بل حملت توقيعات وزراء ومسؤولين كبار، وتضمنت تعليمات صارمة بإخفاء هوية الأطفال، وعدم تمرير أي معلومات دون إذن مباشر من الأجهزة الأمنية.”
ويوضح التقرير أن الأرقام التي ظهرت بعد سقوط نظام الأسد صادمة فخلال ثلاثة عشر عاماً من الحرب، أخفت حكومة الأسد ووكلاؤها نحو مئة ألف شخص قسراً، بينهم آلاف الأطفال، مبيناً أن هذا الرقم يفوق ما ارتكبه النظام النازي في الحرب العالمية الثانية، حيث اختطف النازيون عشرات الآلاف من الأطفال في أوروبا الشرقية”.
ويقول تقرير الصحيفة إنه “في حين تورط جيش السلفادور في ثمانينات القرن الماضي في خطف مئات الأطفال ووضعهم في دور أيتام تديرها منظمة قرى الأطفال الدولية، فإن الأسد ذهب أبعد بتحويل الإخفاء القسري للأطفال إلى جزء من بنيته الأمنية والسياسية، وجعل المؤسسات الإنسانية أدوات بيد الدولة “.
ويبين التقرير أن فرق التحقيق وجدت داخل مقار المخابرات الجوية، بعد انهيار النظام أدلة دامغة على وجود الأطفال: صنادل صغيرة ملقاة بين الأنقاض، سراويل طفولية، دمى مصنوعة من قصاصات قماش، وتقارير طبية توصي بإعطاء فاكهة لرضع يعانون من التهابات صدرية.. وكانت هذه الآثار شواهد على أن الأطفال عاشوا هناك فعلاً، قبل أن يُنقلوا إلى مصير مجهول.
وبحسب “نيويورك تايمز” فإنه في دار الأيتام التي استُقبلت فيها ليلى وشقيقتها، وُضعت الطفلتان مع عشرات غيرهما من أبناء المعتقلين أو المفقودين وعرفت ليلى أن اسمها يُكتب بطريقة مختلفة، وأن شقيقتها تُنادى باسم آخر, وتذكرت وصية أمها بالتمسك بهويتها، لكنها وجدت نفسها أمام بيئة تعمل على محو ماضيها وإعادة تشكيلها.. حيث طُلب من الأطفال رفع صور بشار الأسد وترديد النشيد الوطني، وصُوِّر بعضهم يهتفون بحياة النظام، بينما يعيشون حقيقة أنهم أبناء معتقلين ومفقودين.
تذكر “نيويورك تايمز” في تقريرها أن عائلة الغبيس أصبحت اليوم لاجئة في الولايات المتحدة، وتحاول لمّ شتات هويتها من جديد.. “تقول ليلى، التي بلغت الثامنة عشرة، إنها كانت قاب قوسين من أن تُحوَّل إلى أداة بيد النظام، ولولا وصية والدتها لربما نسيت اسمها بالفعل بينما تبدو شقيقتها ليان أكثر صمتاً وانطواءً، تحمل آثار الخوف الذي زرعته سنوات الاعتقال والاغتراب ويعيش والداها محاولات يومية للتأقلم مع حياة جديدة، ويحملان جرحاً لا يندمل وهو حقيقة أن طفولتي ابنتيهما سُرقتا في أقبية المزة، وأن أسماء مئات الأطفال السوريين ما زالت ضائعة في متاهة السجون ودور الأيتام”.
يقول التقرير إن منظمة قرى الأطفال الدولية، وهي من أكبر المنظمات غير الحكومية في العالم وتعمل في 127 دولة، واجهت في سوريا أخطر الاتهامات في تاريخها ووفقا للوثائق والشهادات، فقد استلم موظفوها أطفالاً من ضباط المخابرات مباشرة، ورفضوا في بعض الحالات تسليمهم إلى ذويهم بعد الإفراج عنهم، بحجة الحاجة إلى إذن أمني، فيما أكدت شهادات بعض الأمهات اللواتي خرجن من السجون أنهن وجدن أبناءهن في دور الأيتام التابعة للمنظمة، لكنّ موظفيها أنكروا وجودهم أو رفضوا الاعتراف بعلاقتهم بهم، واكتشف بعض الأطفال أن أسماءهم تغيرت ببطء داخل هذه الدور، وأنهم باتوا يحملون هوية مختلفة، في عملية منظمة لطمس الذاكرة.
وبحسب التقرير، فهذه ليست المرة الأولى التي يُثار فيها اسم المنظمة في قضايا مشابهة. ففي السلفادور خلال ثمانينات القرن الماضي، استقبلت قرى الأطفال SOS أطفالاً خُطفوا من قراهم على يد الجيش، وعُرض بعضهم للتبني دولياً, و “اليوم، تكرر المشهد في سوريا، ما يطرح أسئلة قاسية حول حدود المسؤولية الأخلاقية للمنظمات الإنسانية حين تعمل تحت قبضة أنظمة استبدادية”.
وتتابع الصحيفة أنه بعد سقوط الأسد وفراره إلى روسيا، بدأت الحقائق تظهر تباعاً.. خرجت العائلات تبحث في المقابر الجماعية، وعلّقت صور المفقودين على جدران دمشق، ووقفت في الساحات مطالبة بكشف مصير أبنائها، فيما أنشأت الحكومة الجديدة لجنة للتحقيق، جمعت أسماء ما لا يقل عن 314 طفلاً من أبناء المعتقلين الذين أُودعوا دور الأيتام، لكنها أقرت بأن الأعداد الحقيقية قد تكون أكبر بكثير.. اختطفت بعض الميليشيات الموالية للنظام أطفالاً من الحواجز وأرسلتهم خارج البلاد.. وتبقى مئات العائلات في حالة انتظار، تبحث عن خيط يوصلها إلى أبنائها.