سيلفا كورية – كاتبة صحفية
في آذار الماضي، ومع ما رافق محاولة الانقلاب وما أعقبها من أعمال قتل وانتهاكات في الساحل، كنت في حمص. وفي اليوم الثالث نزلت إلى عدد من الأحياء ذات الغالبية العلوية.
كان المشهد متأرجحاً بين طمأنينة هشة وقلق خافت، بعض المحال التجارية مفتوحة، الأفران تعمل، المدارس مغلقة، فيما الحدائق والشوارع تمتلئ بالأطفال والأهالي نهاراً قبل أن تنسحب الحركة تدريجياً مع مغيب الشمس.
على مدى ساعات من المشي، التقيت أشخاصاً من مختلف الانتماءات، وتابعت تسجيل مشاهدات ميدانية.
بدا واضحاً أن المدينة كانت تعيش على حافة انزلاق كبير تم تفاديه هذه المرة بنجاح.
في الليلة السابقة، كانت القوى الأمنية قد شكّلت طوقاً مشدداً حول تلك الأحياء بعد وصول جثامين عدد من عناصر الأمن العام إلى ذويهم، وما أثاره ذلك من توتر وغضب واستدعاء لذاكرة موت ما زالت طرية وموجعة.
ورغم انفتاح الناس داخل حمص على الحديث، حملت التعليقات على المقاطع المصورة التي نشرتها سخرية وشتائم وتشكيك اتُّهمت فيها بأنني “أصوّر لأقول إن الوضع طبيعي”، وبأن “هجمات مماثلة لما حصل في الساحل ستقع ليلاً”.
حتى بعض الأصدقاء الذين اتخذوا موقف القطيعة المطلقة مع السلطة ذهبوا إلى معاتبة أقل حدّة لفظياً ولكنها لا تقل اتهاماً: “اذهبي إلى الساحل.. لا تساهمي في تجميل ما يحدث”.
كان واضحاً أن ثمة فئة ترفض الاعتراف بأن الأمور يمكن أن تُدار – في أماكن أخرى – بقدر أقل من الدم والفوضى والتحريض الطائفي، لكن ما جرى في حمص يومها أظهر قدرة المدينة على تجاوز اللحظات الخطرة حين يتقدم الحسّ الشعبي الراغب بالاستقرار، رغم هشاشته.
ولعل ما شهدته المدينة مؤخراً عقب جريمة قتل عائلة بظروف مؤلمة لم تُكشف ملابساتها بعد، والساعات القاسية التي عاشتها في محاولة لاحتواء توتر كاد ينفجر بين أحياء على تماس طائفي، يؤكد حقيقة واحدة أن لا استقرار بلا عدالة انتقالية، ولا أمن بلا مشاركة سياسية حقيقية تُشعر الجميع بأن لهم مكاناً في مستقبل البلاد.
من المؤكد أن الجهات الحكومية تتحمّل مسؤولية صون الأمن وحماية المدنيين، وأي تقصير في ذلك لا يجوز تجاهله.
الهجمات على الأحياء ذات الغالبية العلوية خطأ مدان، وأعمال الانتقام الفردي والقتل العشوائي في الأشهر الماضية جرائم صريحة، يرى البعض أنها جزء من سياق انفلات أمني عام لا يحمل بالضرورة طابعاً طائفياً، لكن كثيرين يدعون إلى التوقف عن دفن الرؤوس في الرمال؛ فبعد سنوات طويلة استخدم فيها النظام المخلوع كل أدوات العنف وأجج الانقسام الطائفي إلى أقصاه، بات من الواضح أن السوري منهك، ومستنزف، وفاقد القدرة على رؤية الآخر خارج قفص الهويّة المهدَّدة.
اليوم، لا يحتاج السوريون إلى مزيد من الشحن والتخوين، بل إلى اعتراف متبادل بالخوف، وإلى وعي بأن تجاوز الانقسام يتطلب وضع المواقف السياسية من السلطة جانباً والاتفاق على مطلب واحد: بناء دولة قانون وعدالة لا تُدار بمنطق الفزعات.
وعلى الإدارة السياسية أن تنتقل من الشعارات إلى الممارسة، وإلى قانون واضح، ومحاسبة شفافة، ومؤسسات تحمي الجميع، وجبر ضرر يعترف بالضحايا ولا يستثني أحداً، فالأوطان لا تنجو بالصدف ولا بالنوايا الطيبة، بل بالعدالة.
وما عدا ذلك ليس استقراراً بل هدنة معلّقة فوق برميل بارود.