الثورة – وعد ديب:
وسط تحديات اقتصادية وضغوط تضخمية تواجهها سوريا، يضع المصرف المركزي استراتيجية جديدة للمرحلة 2026–2030 تهدف إلى تطوير أدوات السياسة النقدية، ضبط التضخم، ورفع كفاءة المصارف، لبناء قطاع مالي أكثر توازناً وفاعلية.
هذه الاستراتيجية، التي أعلن عنها حاكم المصرف عبد القادر الحصرية خلال ورشة عمل موسعة، ترتكز على السياسة النقدية والاستقرار السعري، نظام مدفوعات رقمي آمن ومتكامل، نظام مصرفي سليم، سوق صرف متوازن وشفاف، التكامل المالي الدولي، والشمول المالي المستدام.
وفي ضوء هذه التوجهات، قدّم الخبير الاقتصادي الدكتور سميح القباني لصحيفة الثورة قراءة شاملة للاستراتيجية، محللاً أبعادها النقدية والرقمية والدولية ضمن رؤية مترابطة تنطلق من واقع الاقتصاد وتحدياته.
التضخم
وأشار القباني إلى أن المشكلة الأساسية التي يواجهها الاقتصاد السوري تتمثل في التضخم في بيئة تضيق فيها الأسواق الخارجية، ويهيمن فيها عدم اليقين على سعر الصرف والانتشار الواسع للقنوات النقدية غير الرسمية، موضحاً أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب أدوات تنفيذية دقيقة ومتكاملة.
ورأى أن الحل العملي يبدأ بوضع إطار سياسة نقدية واضح وقابل للقياس، سواء عبر “استهداف التضخم” (Inflation Targeting) أو إطار توافقي للسياسة، يشمل تحديد هدف تضخم معلن ضمن نطاق زمني محدد ومتوسط رقمي المدى، مع آليات للشفافية والتواصل الدوري حول التوقعات والنتائج، بهدف تعزيز استقرار توقعات المستهلكين والمستثمرين.
ويتطلب ذلك رفع جودة البيانات الإحصائية ونشرها، بما يشمل الأسعار، عرض النقد، وأسعار العملات.

السياسات النقدية
وقال القباني: إن قناة أسعار الفائدة تمثل عنصراً محورياً في نقل السياسة النقدية إلى السوق، مبيناً أن الفاعلية تأتي من خلال سعر فائدة مرجعي وممر سعري (rate corridor)، عبر تحديد سعر فائدة واضح (policy rate) واستخدام أدوات سوق مفتوح مثل عمليات إعادة الشراء والسندات قصيرة الأجل، إضافة إلى وجود مسارين للإقراض والإيداع لدى المصرف المركزي لضبط السيولة، ما يتيح نقل السياسة النقدية بسرعة وفعالية إلى أسعار الائتمان والادخار في السوق.
وشدد على أهمية إدارة السيولة باحترافية ومرونة، موضحاً أن ذلك يعني تحسين أدوات إدارة السيولة المصرفية، بما يشمل الاحتياطات الإلزامية الديناميكية، وعمليات السوق المفتوح اليومية أو الأسبوعية، للتعامل مع هروب الودائع وتقلباتها بالعملات الأجنبية، وربط الاحتياطات بالمخاطر، وتعزيز الضوابط ضد التدفقات القصيرة الأجل.
سعر الصرف
وحول سياسة سعر الصرف، دعا القباني إلى اعتماد نهج شفاف واستباقي للتعامل مع الصدمات، مشيراً إلى أن إدارة سعر الصرف وعمليات الاحتياطيات الأجنبية تتطلب سياسة تحويلية لاحتياطيات النقد الأجنبي، وتنويع مصادر العملة الصعبة، وضمان شفافية تدخلات سوق الصرف، إضافة إلى إنشاء آلية احتياط (FX Stabilization Fund) لامتصاص الصدمات الكبيرة.
ولفت إلى أن هذه الخطوات تقلل من تأثير تقلبات الصرف على الأسعار المحلية، مؤكداً أن نجاحها يستلزم تنسيقاً وثيقاً مع السياسة المالية وبرامج تعزيز الإنتاج.
وأضاف: إن التنسيق مع المالية العامة والهيكلة العرضية للاقتصاد أمر ضروري، مشيراً إلى أن السياسة النقدية الفعالة تتطلب تنسيقاً مع السياسات المالية للحد من طباعة النقود للإنفاق، مع تبني برامج لتحفيز الإنتاج وتحسين العرض، إذ إن التضخم يعود جزئياً إلى قيود عرضية في الاقتصاد.
وجدد التأكيد على أهمية الحوكمة والشفافية والحياد المؤسسي، قائلاً: “تحسين استقلالية السياسات وشفافيتها، ونشر تقارير دورية عن التنبؤات والافتراضات، يعزّز مصداقية البنك ويقوّي تأثير أدواته”.

أنظمة الدفع الرقمية
وفي محور تطوير أنظمة الدفع الرقمية، أشار القباني إلى أن نجاح الاستراتيجية يعتمد على بنية تشريعية وتقنية مترابطة، موضحاً أن المتطلبات التشريعية الأساسية تشمل إطاراً قانونياً للمدفوعات الإلكترونية، وقوانين حماية البيانات والخصوصية، بالإضافة إلى تحديث قواعد مكافحة غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب (AML/CFT) بما يتوافق مع المعايير الدولية، وإنشاء إطار تنظيمي للتراخيص والتشغيل (PSP، EMI، Switching).
وأضاف: إن المتطلبات التقنية والعملياتية تشمل بنية تحتية للدفع الفوري، قابلية التشغيل البيني، تعزيز الأمن السيبراني، إدارة الهويات الرقمية و”KYC” إلكتروني، إضافة إلى نظام تسوية ومرجعية موثوقة.
وعن الأثر الاقتصادي المتوقع، لفت القباني إلى أنه يشمل خفض تكاليف المعاملات، زيادة سرعة تنفيذها، توسيع الشمول المالي، تحسين جمع البيانات الاقتصادية، وتقليل الاعتماد على القنوات غير الرسمية.
التكامل المالي الدولي
وفي حديثه عن التكامل المالي الدولي، أكد القباني أن الانفتاح ممكن، لكنه يجب أن يتم خطوة بخطوة وبطريقة مدروسة، موضحاً أن الواقع الحالي يشير إلى فرص عملية لإعادة ربط سوريا ببعض أنظمة الدفع الدولية.
وأضاف: إن الخطوات المقترحة تشمل: الامتثال التدريجي للمعايير الدولية (AML/CFT وحوكمة البنوك)، تنفيذ إصلاحات مؤسسية شفافة ومحددة (Roadmap)، بناء شراكات تقنية وتجارية، إعادة هيكلة البنية المصرفية وأنظمة المراسلات، خلق حوافز للاستثمار الأجنبي، وإطلاق مشروعات تجريبية (pilots).
ولفت إلى أن مؤشرات الأداء المطلوبة لقياس نجاح هذه الخطوات تشمل: عدد البنوك المراسلة الجديدة، نسبة المدفوعات الإلكترونية، تقييمات الامتثال الدولي، واستقرار سعر الصرف خلال فترة 12–36 شهراً، معتبراً أن هذه المؤشرات تعكس تأثير السياسات على الاقتصاد.