سلطان الكنج:
من يتابع المزاج الإسرائيلي يدرك أن لحظة سقوط النظام على يد السوريين، تمثل بالنسبة لإسرائيل فرصة استراتيجية لفرض رؤيتها الأمنية والسياسية. تتعامل معها كحقل خام يمكنها عبره تشكيل واقع سياسي وأمني طويل الأمد، وترى أن سوريا خريطة مهشمة تستطيع أن ترسم ملامحها بما يوافق مصالحها الأمنية والسياسية على المدى البعيد، لاسيما أن إسرائيل تعيش الآن نشوة الطغيان بأنها كسرت المحاور وخلقت شرقا أوسط جديد بشرت به منذ أعوام.
كما ترى أن مرحلة فائض القوة هذا يمنحها خلق واقع جديد يضمن لها لسنوات، وفق تصورها، أن تبقى في مأمن من أي أحد يمكن أن يفكر بمغامرة ما، كما حدث منذ سنتين.
تختلف النظرة الغربية والأمريكية عن النظرة الإسرائيلية في بعض التفاصيل الخاصة بسوريا، وإن كانتا تتفقان في بعض المحددات.
يرى الأمريكيون والغربيون أن من المصلحة الآن التفاهم مع سوريا الجديدة ودعم استقرارها.
الغربيون يعتبرون أن المصلحة تقتضي دعم سوريا المستقرة لأن البدائل خطيرة: موجة نزوح كبيرة لأوروبا، وتمدد التنظيمات التي تهدد مصالحهم. لكن إسرائيل تنظر لسوريا الجديدة بعين الهواجس الأمنية والطمع السياسي واستغلال الفرصة لكسب الكثير دون أن تقدم هي أي ثمن.
هي تنظر للتحول السوري باعتباره فرصة لإغلاق ملفات عمرها عقود، وربما فرض معادلة أمنية دون التطرق لمسألة الاحتلال للأراضي السورية. بينما يريد الغرب “استقراراً” لسوريا يمنع الفوضى ويعيد الإعمار، ترى إسرائيل أن ما يحدث في سوريا هو فرصة لإعادة تعريف قواعد اللعبة نفسها.
فهي تعتبر أنها في ذروة تفوقها، ومع هذا الإحساس بالفائض الاستراتيجي لم تعد تريد أن تكون لاعباً في الملف السوري فقط، بل هندسته بالكامل، بما يضمن مصالحها ومطامعها السياسية.
من هنا، يمكن فهم سلوك إسرائيل في ثلاث اتجاهات واضحة.
أولها ملف الجولان المحتل، حيث لا تتعامل معه كأرض محتلة قابلة للتفاوض، بل كملف محسوم فعلياً.
سوريا الجديدة، المثقلة بإرث النظام، لن تكون قادرة – حسب القراءة الإسرائيلية – على فتح هذا الملف، والتفاوض بشأنه ما يتيح لإسرائيل تثبيته كواقع سياسي بحيث يصبح الحديث فيه من الماضي وغير قابل للتفاوض.
الاتجاه الثاني هو الجنوب، فهنا لا تتحدث إسرائيل عن ترتيبات حدودية أو العودة لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، بل عن “حزام أمان” دائم بلا أي وجود عسكري. الجنوب السوري بالنسبة لإسرائيل ليس مجرد حدود، بل خط أحمر كامل. ومن مصلحتها أن يُعاد تشكيل سوريا بطريقة تجعل الجنوب خارج أي احتمال تهديد وفق تصوراتها، حيث إن الهاجس الأمني والعنجهية العسكرية هما اللذان يشكلان ملامح السياسة الإسرائيلية ويحددان طريقة التعامل مع الجيران.
أما الاتجاه الثالث فهو ملف العقوبات. تدرك إسرائيل أن سوريا الجديدة المنهكة تحتاج إلى تمويل، وإلى مظلة دولية واسعة، حيث تراهن تل أبيب على أن سوريا الجديدة لن تستطيع دخول مرحلة التعافي دون رفع هذه العقوبات.
هذا يتيح لإسرائيل مساحة تأثير على القرار الأمريكي: رفع عقوبات مشروط يصب في مصلحتها بطريقة الابتزاز السياسي، والضغط باتجاه ترتيبات أمنية طويلة الأمد عبر ممارسة الضغوط على الولايات المتحدة في مسألة رفع العقوبات عن سوريا، بحيث يرتبط رفع العقوبات بهواجس إسرائيل الأمنية ومطامعها، ويصبح بازاراً تساوم سوريا من خلاله، واستخدام هذه الورقة لفرض تطبيع مجاني والدخول في تفاهمات دون التطرق لمسألة الاحتلال للأراضي السورية. يمكن القول إن التمدد الإسرائيلي في الأراضي السورية بعد سقوط النظام له شكلان: تمدد تكتيكي وتمدد استراتيجي.التمدد التكتيكي هو التوغل الأكثرعمقاً داخل الأراضي السورية متجاوزاً كل بنود اتفاقية فض الاشتباك، وصاحبه الضربات الجوية، وكل هذا يمثل وقائع ميدانية للاستخدام كورقة ضغط.
هذه أوراق قد تتخلى عنها إسرائيل إذا حصلت على تنازلات أكبر، لأنها في النهاية أدوات مساومة.
أما التمدد الاستراتيجي فهو خط أحمر لا يدخل دائرة التفاوض، ويتمثل في السيطرة على جبل الشيخ.
هذه ليست مجرد تفاصيل، بل جزء من الأمن القومي من منظور إسرائيلي، ولا يمكن المساس بها أو ربطها بأي عملية سياسية. هذا التمدد يمثل الواقع الجديد الذي ترى إسرائيل أنها فرضته على سوريا.
وتنظر تل أبيب إلى المشهد السوري وهي ترى دولة منهكة، مثقلة بتركة نظام الاستبداد، تسعى جاهدة لالتقاط الأنفاس من ذلك العبء الذي خلفه النظام. كل ذلك يجعل إسرائيل تعتقد أن سوريا الجديدة لا تملك ترف الرفض، وأن حاجتها للدعم الدولي ستدفعها في النهاية نحو قبول “تفاهمات بلا أثمان” مع إسرائيل. بمعنى آخر: إسرائيل تريد أن تكون سوريا الجديدة دولة بلا مقومات عسكرية، لا جيش قادر، لا قدرة على إنتاج أي تهديد، ولا إمكانية لإعادة فتح ملف الجولان. دولة تدير نفسها داخليا، لكنها محكومة بسقف أمني صارم يحدد شكلها وخريطتها وتوجهاتها السياسية بما يخص العلاقة مع إسرائيل.
وربما يتفق الفاعلون الإقليميون والدوليون على أن استقرار سوريا المستقبل ضرورة ملحة للجميع، لكن إسرائيل وحدها تبدو واضحة للغاية، هي تريد جارة ضعيفة، يسهل ابتزازها.