فراس علاوي:
لطالما شكلت الجغرافيا إطاراً جوهرياً لهوية الدولة الوطنية، حيث تمثل الحدود الجغرافية الإطار المكاني الذي يحتوي عنصري الطبيعة والبشر، ليُبنى من خلاله وعي الانتماء الوطني.
يتجلى تأثير الجغرافيا ليس فقط في شكل الدولة الخارجي، وإنما أيضاً في طبيعة السكان وحدود السيادة التي تتغير بتغير الظروف الجغرافية.
فالتقلبات في جغرافيا الدول تلعب دوراً في إعادة تشكيل هويتها السياسية والديموغرافية، كما شهدنا في حالة تفكك يوغسلافيا التي انقسمت على أسس عرقية.
المكان الذي يشغله الإنسان هو أساس القوة والسيادة الوطنية، حيث تلعب الحدود الطبيعية والتضاريس والموارد دوراً محورياً في تعزيز مشاعر الولاء والدفاع عن الأرض.
تعبيرات وطنية عديدة تنبع من اعتزاز الأفراد بأراضيهم وجغرافيتها، كما تجلى ذلك بوضوح في النشيد الوطني الجزائري الذي يمجد الثورة والاستقلال مرتبطاً بالجغرافيا.
تتحدد القوة الوطنية أيضاً بمعطيات جغرافية تحدد إمكانيات الدفاع والموارد، والتي بدورها تؤثر في العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول.
فالدول الغنية بموارد طبيعية تحظى بقوة ناعمة وصلبة تعزز مكانتها السياسية، الأمر الذي يجعل للجغرافيا الاقتصادية دوراً في بناء القوة الوطنية.
ولا يقتصر دور الجغرافيا على كونها مسكناً للسكان، بل هي حجر الأساس في تكوين الهوية الوطنية التي تتغذى من ارتباط الأفراد بالأرض.
هذا الارتباط يمتد ليشمل العوامل الثقافية والتاريخية التي تعزز الشعور بالانتماء من خلال التفاعل مع المكان والتاريخ المشترك، وهذا ما يجعل للهوية الوطنية بعداً حيوياً وتكوينياً، الجغرافيا ليست مجرد موقع ومكان، بل عامل يتداخل مع الثقافة والتاريخ لتصنع ملامح الهوية الوطنية.
هذه العلاقة الاستراتيجية بين المكان والهوية تسهم في تعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ على الحدود وتنمية الاقتصاد والسياسة، كما بيّنت تجربة السودان التي عكست تأثير التحولات الجغرافية على الحالة الوطنية.
تشكل الهوية الوطنية نتاجاً مركباً يرتكز على التفاعل بين التاريخ، والثقافة، واللغة، والدين، في إطار جغرافي محدد، فمثلاً تنوع التضاريس الطبيعية كالجبال والأنهار يخلق تنوعاً في الأنماط الثقافية والاجتماعية، وهو ما يعكس تعددية تعابير الهوية الوطنية داخل الدولة الواحدة.
علماً أن الجغرافيا تمهد بيئة لتقاسم الرموز والممارسات الثقافية التي توحد المجتمع، بينما تبقى الهوية الوطنية عملية مستمرة من التشكّل بين الإنسان والمكان والتاريخ.
إذ تلعب الجغرافيا دور الوعاء الحاضن للذاكرة والقيم، لكنها ليست العامل الوحيد، بل تتكامل مع عوامل سياسية وثقافية واجتماعية تجعل من الهوية مشروعاً ديناميكياً متطوراً.
وبالتالي يمكن القول إن الجغرافيا تشكل الأساس العملي والرمزي للهوية الوطنية، فهي الوعاء الذي يضم عناصر القوة والانتماء، ويعزز الشعور بالولاء للوطن، مما يجعل من فهم الجغرافيا ضرورة لفهم الهوية الوطنية بأبعادها المتعددة.