الثورة- راغب العطية:
دخلت العلاقات السورية اللبنانية، منذ سقوط نظام الأسد المخلوع، مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق وإعادة التأسيس، ورافقها خلال الأشهر الماضية تبادل للزيارات الرسمية رفيعة المستوى بين البلدين، إضافة إلى اللقاءات الثنائية التي حصلت بين المسؤولين السوريين واللبنانيين على هامش بعض الاجتماعات العربية والدولية. ويؤكد مسؤولون في البلدين، في دمشق وبيروت، أنهم يريدون علاقات أخوية قائمة على الاحترام المتبادل والندية.
وقد عبّر الرئيس اللبناني جوزاف عون في خطابه بمناسبة الذكرى الـ82 لاستقلال لبنان الجمعة، عن رغبة اللبنانيين بإقامة أفضل العلاقات مع سوريا، وقال: إن علاقاتنا مع سوريا الجديدة تتطور في الاتجاه الصحيح، علاقة بين بلدين سيدين نديين.
وانتقد عون في رسالة وجهها إلى اللبنانيين في هذه المناسبة حالة الإنكار التي يعيشها، كما أسماهم عون، بعض المرتابين في لبنان من تطورات المنطقة، مؤكدا أن هذا السلوك مجانب للواقع، وللإرادة اللبنانية أولاً، قبل مناقضته للظروف الإقليمية والدولية. وبهذا يكون الرئيس اللبناني قد وضع لبنان في المكان الذي يصبّ في مصلحة الشعب اللبناني، لا مصلحة طرف أو حزب أو طائفة، انسجاماً مع التغيير الذي حصل في المنطقة، وعلى رأس هذه التغييرات تحرر سوريا في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 من نظام الأسد المخلوع.
وكان السيد الرئيس أحمد الشرع قد أكد في 24 آب/أغسطس الماضي خلال استقباله لوفد إعلامي عربي في دمشق، ضمّ مديري مؤسسات إعلامية ورؤساء تحرير صحف عربية ووزراء إعلام سابقين، أن دمشق تريد بدء صفحة جديدة مع لبنان، وأن سوريا الجديدة تنازلت عن الجرح الذي سببته اعتداءات “حزب الله” عليها، لافتاً إلى أنه لم يحاول إطلاق تصريحات قد تحمس أطرافا داخل لبنان، وأنه يقف على مسافة واحدة من الجميع دون إلغاء أي طرف.
تحول الخطاب السوري تجاه لبنان
وأكد الرئيس الشرع في لقائه الإعلاميين العرب أن تعزيز التعاون الاقتصادي مع لبنان وتحقيق توءمة اقتصادية بين البلدين يمثلان الحل الأمثل لإنهاء “الاستقطاب السياسي”، وقال: “إن أهم ما يمكن أن يفيدنا هو العمل المشترك للحفاظ على الاستقرار السوري- اللبناني، وخاصة في ظل الهبّة الاقتصادية الكبيرة التي تشهدها سوريا والإقبال المتزايد على الاستثمار”، لافتاً إلى أنه يمكن تحقيق توءمة عبر استثمارات اقتصادية ناجحة تشمل أنابيب النفط، وإمداد الغاز، ومعالجة مشكلات الكهرباء في سوريا ولبنان، ما سيخفف من حدة الاستقطاب السياسي عندما يرى الناس تحسين الخدمات الاقتصادية.
وكشفت التصريحات التي أطلقها الرئيس الشرع عن تحول واضح في أسلوب الخطاب السوري تجاه لبنان عما كانت عليه في عهد النظام المخلوع، إذ كان عنوانها الهيمنة والتدخل السياسي بكل شاردة وواردة.
وبسبب التدخل السوري المباشر بحياة اللبنانيين، وخاصة في الفترة التي كان فيها جيش النظام المخلوع هو الآمر والناهي في لبنان، وعدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين، نتجت العديد من القضايا التي ما زالت دون حل، وأصبحت إرثاً ثقيلاً على كاهل دمشق. وهذه الملفات العالقة تمس جوهر السيادة والاستقرار في كلا البلدين، أبرزها ملف ترسيم الحدود، وضبط المعابر غير الشرعية، وملف النازحين السوريين، وملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية، والمعتقلين اللبنانيين والمخفيين قسرا في سجون نظام الأسد المخلوع.
ويمثل سقوط نظام الأسد المخلوع منعطفا تاريخيا لتصحيح بوصلة العلاقات بين سوريا ولبنان، معلنا الانتقال النهائي من حقبة “الوصاية الأمنية” المظلمة إلى فضاء “التكامل والندية”. هذا التحول الجذري لا يعيد سوريا إلى حضنها العربي فحسب، بل يفكك الألغام والتوترات التي زرعها النظام المخلوع، مؤسسا لعلاقة استراتيجية صحية ومستدامة.
الملف الأمني والقضائي يشكل حجر الزاوية
قال السياسي والكاتب محمد ياسين نجار في حديث خاص مع صحيفة “الثورة السورية”: إن الملف الأمني والقضائي يشكل حجر الزاوية في هذا العهد الجديد؛ إذ تتجلى المصداقية اليوم في تسليم “فلول” النظام المخلوع ورجالاته الفارين وأموالهم التي نهبوها من السوريين، وإطلاق سراح المعتقلين السوريين الذين زج بهم في السجون اللبنانية بفعل هيمنة منظومة “حزب الله” وسطوتها السابقة على مفاصل القضاء والأمن في لبنان. وقد أثمر هذا التنسيق الأمني “النظيف” مؤخرا عن توجيه ضربات قاصمة لمافيا الكبتاغون، توجت باعتقال بارون المخدرات “نوح زعيتر”.
وتأتي هذه الخطوة كرسالة حازمة بانتهاء زمن “الدويلات” وسقوط منطق الميليشيات العابرة للحدود، مما يمهد الطريق لعودة لبنان دولة ناجحة كاملة السيادة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يضيف نجار بالقول: تعود دمشق لتلعب دورها الحيويِّ كرئة للبنان عبر إعادة تفعيل خطوط الترانزيت للصادرات اللبنانية نحو الأسواق الخليجية، مؤكداً أن ذلك يتزامن مع فتح ملف شائك ومعقد يتمثل في استعادة مدخرات السوريين المحتجزة في المصارف اللبنانية، وتسوية أوضاع المصارف اللبنانية العاملة في سوريا، في خطوة تهدف لتحقيق العدالة المالية وحفظ حقوق الطرفين. إن تجاوز هذا الملف سوف يفتح باب الاستثمار المتبادل بما يحقق مصلحة الشعبين الشقيقين.
وأشار المحلل السياسي إلى أن هذا التعاون ليس ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية حتمية؛ فاستقرار سوريا هو الرافعة الحقيقية التي ستمكن الدولة اللبنانية من استعادة قرارها المصادَر منذ عقود، وخلق واقع اجتماعي واقتصادي مزدهر يطوي صفحة الماضي ويعود بالخير على الشعبين الشقيقين.
رؤية طويلة الأمد للعلاقات بين البلدين
وبحسب العديد من المصادر، خرجت زيارة نائب رئيس الحكومة اللبنانية طارق متري الأخيرة إلى دمشق بنتائج وصفت بالمهمة، تعكس انتقال العلاقات السورية- اللبنانية من مرحلة التوتر والحذر إلى مسار أكثر انفتاحاً وتفاهماً.
وذكرت صحيفة “الشرق الأوسط” عن متري قوله: إن التعاون الفعلي بين بيروت ودمشق بدأ فعليا قبل نحو أربعة أشهر، وأن لقاءاته في العاصمة السورية جاءت “لاستكمال ما تحقق خلال هذه الأشهر، وتعزيز مسار مبني على الوضوح والشفافية والاحترام المتبادل”، مؤكدا أن الرئيس الشرع كان “واضحاً في حرصه على عدم فتح دفاتر الماضي، والنظر إلى المستقبل باعتباره الطريق الوحيد نحو الاستقرار”، معتبراً ذلك “إعلان إرادة سياسية صريحة لإنهاء سنوات من سوء الفهم”.
وأشار متري إلى أن الرئيس الشرع قدم “رؤية طويلة الأمد للعلاقات بين البلدين، متجاوزة الحلول التقنية الآنية إلى التعاون الاستراتيجي في مجالات الطاقة والمياه والأمن، إضافة إلى السعي لاستثمار العلاقات الدولية لكل بلد بما يكمل مصالح الآخر”، وأنه ذكر بمواقفه التي عبر عنها في لقاءاته الأخيرة خارج سوريا، بما فيها زيارته إلى واشنطن، التي شدد فيها على “ضرورة ترسيخ الثقة بين البلدين، وأن دمشق مقتنعة بأن لدى لبنان طاقات بشرية واقتصادية قادرة على لعب دور مهم في مرحلة إعادة الإعمار”.
وكان وزير الإعلام اللبناني بول مرقص أكد مؤخرا أن العلاقات السورية اللبنانية تؤسس لمرحلة واعدة من التعاون، مشددا على السعي الجاد والحثيث لمعالجة الملفات العالقة بين البلدين الشقيقين عبر الأطر الرسمية واللجان المشتركة.
وقال مرقص في تصريحات نقلتها الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام: هناك صفحة جديدة من العلاقات اللبنانية السورية، ونحن نسعى لحلّ المشاكل العالقة، كاشفاً عن تقدمه بطلب رسمي لإدراج قضية المصور اللبناني سمير كساب المختطف في سوريا منذ عام 2013 على جدول أعمال اللجنة اللبنانية السورية، وذلك عقب رفعه كتابا بهذا الخصوص إلى الحكومة اللبنانية.
وكان المصور الصحفي اللبناني كساب، وهو مراسل قناة “سكاي نيوز عربية”، تعرض للاختطاف من قبل تنظيم “داعش” الإرهابي مع زميله الصحفي الموريتاني إسحاق مختار قرب بلدة عندان في ريف حلب الشمالي في الثالث عشر من تشرين الأول عام 2013.
وجود رغبة قوية للتعاون المشترك
واستقبل وزيرا الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني والعدل مظهر الويس نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني طارق متري في العاصمة دمشق.
وبحث الجانبان مستجدات الأوضاع الإقليمية وآفاق تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، وناقشا جملة من القضايا المشتركة التي تهم البلدين، وأبرزها قضية الموقوفين السوريين في لبنان على خلفية الثورة السورية بغية الوصول إلى تسوية عاجلة لأوضاعهم.
وكان وزير العدل الويس أجرى مباحثات في بيروت 14 تشرين الأول/أكتوبر الماضي مع نظيره اللبناني عادل نصار ونائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني طارق متري تناولت مسائل التعاون القضائي المتعلقة بالمعتقلين السوريين في لبنان والمطلوبين السوريين الفارين من وجه العدالة إلى لبنان واللبنانيين الفارين إلى سوريا، إضافة إلى الملفات القديمة المتعلقة بالتعاون في القضايا الأمنية التي حدثت في لبنان، موضحا أن فرقا خاصة تشكلت لمتابعة إظهار الحقيقة وتحقيق العدالة.
بدوره، قال وزير العدل اللبناني: إن مناقشة صياغة الاتفاقية قطعت خطوات كبيرة نحو إنهاء نصها القانوني، لافتا إلى أن الاتفاقية لا تشمل المتورطين بجرائم القتل سواء للمدنيين أو العسكريين اللبنانيين وجرائم الاغتصاب.
وأكد نصار أن الاجتماع كان بناء وإيجابيا، وتطرق إلى قضية الفارين من العدالة من لبنان إلى سوريا، والاستحصال على المعلومات الأمنية، والاغتيالات التي حصلت في لبنان على أيدي النظام المخلوع، إضافة إلى قضية المغيبين قسرا.
وشدد نصار على التزام الجانبين السوري واللبناني احترام الأطر القانونية للاتفاقية، بما يضمن احترام سيادة البلدين، مشيرا إلى وجود رغبة قوية للتعاون المشترك.
تعليق عمل المجلس الأعلى
من جهته، بين نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني طارق متري أن العلاقة بين لبنان وسوريا تشكل الأساس والسند والمرجع في معالجة قضية الموقوفين السوريين في لبنان، مشدداً على أن الحكومة اللبنانية تملك إرادة سياسية قوية لمعالجة هذه المشكلة.
وجاءت زيارة وزير العدل استكمالاً للزيارة التي أجراها وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني والويس ورئيس جهاز الاستخبارات العامة حسين السلامة إلى بيروت في وقت سابق.
وشكلت زيارة الشيباني إلى لبنان محطة مهمة في مسار العلاقات السورية اللبنانية، بوصفها بداية صفحة جديدة بعد عقود من التوتر والتأزم والخلل، معلنة نهاية عصر الوصاية التي كان يمارسها نظام الأسد المخلوع في لبنان، عبر تحويل لبنان إلى ساحة خلفية له واستخدامه ورقة في صراعاته الإقليمية والدولية، فضلاً عن ازدراء نظام الأسد المخلوع فكرة الدولة اللبنانية وعدم اعترافه بها.
ومثلت هذه الزيارة خطوة أولى في مسار إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين على أسس مختلفة، في ضوء التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية المشتركة، وبداية جادة للعمل على حلحلة الملفات العالقة، بدءاً من ملف الموقوفين والمعتقلين في السجون اللبنانية، مروراً بملف اللاجئين السوريين في لبنان، ووصولاً إلى العلاقات الاقتصادية وملف إعادة الإعمار وفتح المعابر التجارية ووقف عمليات التهريب وترسيم الحدود البرية والبحرية، بما فيها مزارع شبعا.
وقد استبقت دمشق زيارة الشيباني بإبلاغ وزارة الخارجية اللبنانية عبر السفارة السورية في لبنان قرار تعليق عمل المجلس الأعلى اللبناني السوري، وحصر كل أنواع المراسلات بين البلدين بالطرق الرسمية الدبلوماسية.
ويأتي التوجه السوري نحو لبنان في سياق سعي الحكومة السورية إلى الانفتاح على دول الجوار والعالم، وإعادة تموضع سوريا بوصفها دولة طبيعية تنتهج الحوار ولغة المصالح المشتركة في علاقاتها الدولية، بعد عقود عديدة من العزلة الدولية والقطيعة مع المحيط الإقليمي والعربي التي انتهجها نظام الأسد المخلوع وتسببت في خضوع البلاد لعقوبات دولية على خلفية سلوكه الدموي حيال الشعب السوري ورعايته الإرهاب.