د. إبراهيم إسماعيل باحث في الأديان والفلسفة والتيارات الفكرية
أقيمت قبل أيام بتوجيه من وزارات الأوقاف في عدد من الدول مثل سورية والسعودية وقطر صلاة الاستسقاء، وهي من السنَّة التي يقوم الناس بتطبيقها في بلادنا كلما تأخر المطر عن موعده المعتاد.
يتوقع السوريون أول القَطْر نهاية أيلول ومقولتهم «أيلول ذنبه مبلول» مشهورة، بينما يتوقع أهل الخليج بداية المطر مع ظهور نجم سهيل في نهاية آب، ومقولتهم «إذا طلع سهيل؛ لا تأمن السيل» مشهورة كذلك.
من المفارقات أن موسم الأمطار في العام الماضي كان الأقل في سورية منذ عشرات السنين، بينما نزلت على الخليج هطولات لم يكن لها مثيل منذ عشرات السنين كذلك، صحيح أن ذلك يشير إلى تغيرات في المناخ، لكن الشاهد أن الناس في البيئتين الشامية والخليجية هرعوا إلى صلاة الاستسقاء عند تأخر الهطول عن موعده المعتاد.
صاحبت الدعوة إلى صلاة الاستسقاء
بعض المنشورات الساخرة في مواقع التواصل الاجتماعي، ليست غايتنا في هذا المقال الاشتباك مع الساخرين لكننا نجدها فرصة لنبين كيف تذكِّر صلاة الاستسقاء بالنظرة الإسلامية للوجود.
تبين النظرة الإسلامية للوجود أن الطبيعة من خلق الله كما الإنسان تماماً، وأن الله هو القائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه، وبالتالي فثمة علاقة وجودية بين خالق يدبر ويضع القوانين والسنن، وبين مخلوق يعيش في طبيعة مخلوقة يخضع هو وهي لذلك التدبير ويتعامل معها وفق تلك السنن.
يدرك المسلمون تلك المعادلة، فالإيمان بأن الله هو الرازق والتوجه بطلب الرزق منه لم ينتج عنه أن يتصور الفلاح البسيط أن ذلك يكفيه دون الحرث والزرع والحصد ومعالجة الآفات والتعهد بالعناية ومراعاة كامل ظروف الزراعة وشروطها ومواسمها، فالتصور الديني لا يغني عن السير وفق الشروط المادية والتعامل مع تحدياتها.
وكما أنَّ فَهْمَ المسلمين الشروط المادية لنجاح الزراعة لم يحل دون الإيمان بأن الله هو الرازق، كذلك لم تكن التفسيرات العلمية للظواهر الطبيعية حائلة دون ذلك الإيمان، وعلى سبيل المثال فإن معرفة طريقة تشكل الكسوف والخسوف علمياً لا يعني أن صلاة السنة الخاصة بهما لم تعد ذات جدوى، فالصلاة ليست غايتها منع الكسوف والخسوف لكنها شكر لله على تنظيم الليل والنهار حتى ناسب معاش الناس وحوائجهم.
ومثل ذلك يقال عن العلاقة بين صلاة الاستسقاء وبين تأخر المطر أو التغير المناخي، فالاستسقاء تأكيد على حقيقة أن الله هو المدبر الذي يُقصد وتُطلب منه الحوائج، لكن ذلك لا يعني عدم الأخذ بالحلول المادية، فقد أخذ بها نبي الله يوسف في السنين السبع العجاف وقدَّم بذلك مثالاً للتأسي والاقتداء، وبناء عليه فإن الأخذ بمقترحات الخبراء للتخفيف من آثار الجفاف مثل ترشيد استخدام المياه، واستخدام أساليب حديثة في ري المزروعات، واللجوء لحلول مثل تحلية مياه البحر، ومنع استنزاف المياه الجوفية عبر تقنين حفر الآبار وغير ذلك مما ليس من الأخذ به بُد.
إن وضوح مثل هذه الرؤية يبين لنا تهافت الأصوات الساخرة من تداعي الناس إلى صلاة الاستسقاء، وظن أصحاب تلك الأصوات أن المسلمين يواجهون بالصلاة وحدها موجات الجفاف والتغير المناخي، ولا أدري سبب ظنهم أن الجمع بين الاعتقاد بأن الله هو المدبر الذي يُقصد بالحوائج وبين الأخذ بالأسباب المادية من المتناقضات أو المستحيلات، فلا هو كذلك عقلاً ولا عرفاً، ولطالما استطاع الإنسان أن “يعقل ويتوكل” أي أنه استطاع أن يجمع بين التصورين الديني والمادي الدنيوي ليُنْجِحَ أعماله ومساعيه في الحياة ويحتسبها عبادة في الوقت نفسه.