الملحق الثقافي..د. محمود شاهين
«زمكانيّة التصميم المعاصر» عنوان كتاب للفنان والباحث العراقي «معتز عناد عزوان إسماعيل» عضو الهيئة التدريسيّة في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد. ومصطلح «زمكانيّة» اختصار لكلمتي «الزمان والمكان». والكتاب بشكل عام، مكرس لفن التصميم الطباعي المرتبط بفنون الإعلان، لاسيّما منها الملصق Poster الذي بات «كما يقول المؤلف» من أهم الوسائل الاتصاليّة التي تؤدي هدفاً فكرياً وعقائدياً وسياسياً، فضلاً عن الإرشاد والتوجيه وغيرها. والملصق هو رسالة فنيّة قد تكون جماليّة أحياناً، بيد أن الجماليّة نسبيّة، أو قد تكون وظيفيّة بحتة.
تاريخ الملصق
يشير الكاتب إلى أن ظهور الملصق لأول مرة «بوصفه فناً تصميمياً حديثاً» في القرن الخامس عشر، وبالتحديد في السنوات الأولى لاختراع الحروف الطباعيّة من قبل «غوتنبرغ 1438 ـ 1445» وبالتالي اختراع الطباعة. احتوت الملصقات الأولى، على مادة مكتوبة، الغرض منها حمل رسالة إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وبأقل الوسائل كلفة، وكانت تُلصق في الكنائس أو في الأماكن العامة الأخرى. وفيما بعد، تطورت الملصقات من الناحية الموضوعيّة والتعبيريّة حتى شملت التطور التجاري أو الترويج للمواد. بعدها اخترعت الطباعة الحجريّة «ليتوغراف» من قبل الويس سنفلدر عام 1796 التي احتوت صوراً توضيحيّة مبسطة الدلالة على المعارض والبيانات الحكوميّة، وإعلانات أو دعايات لنشر الكتب، وكانت تُطبع هذه الصور في الملصقات بوساطة الخشب. ونحو العام 1800 بدأ عهد جديد في تطور الملصق، لاسيّما بعد الثورة الصناعيّة. مر تاريخ الملصق بمرحلتين رئيستين: الأولى تقع بين 1870 و1919 كان خلالها الملصق جزءاً من العمليات التجاريّة. والثانية عام 1919 ومستمرة حتى اليوم.
الزمكانيّة
توزع الكتاب على خمسة فصول. الأول مكرس للزمان في التصميم الطباعي، والثاني للمكان في هذا الفن، والثالث للملصق العلمي ونشأته وتطوره، والرابع للتقنيّة والإعلام وزمكانية الملصق، والخامس للزمكانيّة في الملصق العالمي المعاصر.
يرى المؤلف أن الزمان والمكان من المتغيرات المهمة التي ما تزال تُثير العديد من التساؤلات والتفسيرات المختلفة، في تأثيراتها على إدراك وتلقي الفكرة التصميميّة، لاسيّما ما يتعلق بالجوانب المعرفيّة والتأويليّة. إن البحث عن هذين المتغيرين اللذين يكون لحضورهما في العمل الفني «خصوصاً الملصق بوصفه وسيلة اتصال فني وتعبوي وإرشادي» يُبنى على أفكار موجهة وفق أهداف قد تكون واقعيّة مباشرة، من خلال ما تملكه وحداته الفنيّة، أو عناصره البنائيّة، من قدرة على التفلسف والتأويل في إظهار الحدث وبيانه، فضلاً عن تحديده من خلال الرموز والشكل والوظيفة.
ويؤكد المؤلف أن الحاجة إلى تحديد متغيري الزمان والمكان، باتت من القضايا والمشاكل التي تواجه التأويل والتفسير، لمنطقيّة اختيار العناصر البنائيّة، والرموز المشخصة، وتحديد معايير استخدام تلك الرموز أو العناصر، وفق تتابع زمني، يجمع بين الحالة المطروحة، يساهم في إبراز دلالاتها افتراضياً.
فن صعب
في تقديمه للكتاب، يُشير الدكتور إياد الحسيني عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، إلى أن فن الملصق، بما يحمل من ملامح جماليّة ومعرفيّة، يُعتبر واحداً من أصعب الفنون التي تقدم الجمال لصالح الوظيفة والاتصال. وانطلاقاً من منظومة النظرة والفكرة واللغة والتعبير في زمان مضطرب، بات البحث عن وسيلة للتعبير فيه تتجاوز حدود اللغة اللفظيّة إلى لغة تعبيريّة تحمل طاقات خلاقة هو أمر لا بد منه، في ظل غياب الصيرورات والمنظومات التي تجعل من الملصق ناقلاً للغة، من نظام خطابي إلى نظام خطابي آخر، وفق إطار متسلسل، منهجي، ودقيق. ويؤكد الدكتور الحسيني أن المعرفة في فن التصميم لم تعد تعتمد المهارات الإبداعيّة الفنيّة في تنفيذه وطباعته، وإنما في ذلك الجهد الخلاق في عمليّة بناء الفكرة التي تختصر الزمان والمكان والحياة في صورة بلاغيّة غاية في البساطة، غاية في القوة، غاية في التعبير، وكل ذلك لا يتم إلا من خلال زحزحة العلاقة بين النصوص المعرفيّة والعالم الخارجي، بفعل المنهجيات الحديثة في التفكير، وضمن أنساق وطرز تحاكي أقوى أنظمة التعبير.
التصميم الطباعي
يحدد المؤلف «معتز عناد غزوان» الزمن في الفن بأنه حسي داخلي مشروط بالتأمل، فنحن نشعر بالقبل والبعد ونحن بإزاء تذوق أي عمل. كما أن لحظات التجربة الجماليّة تترابط في الاستمتاع الجمالي ترابطاً أحكم مما يحدث لها في أي نوع آخر من التجربة، ذلك لأن أي عمل تشكيلي ينطوي بصفة دائمة على عنصر الزمن الذي يُميز بخصائص رئيسة هي أن يكون بعداً من أبعاد العمل الفني، وأن يكون بمثابة الصيغة الزمنيّة له.
من جانب آخر، يُعد متغير المكان معياراً مهماً تقاس به قوة تعبير العمل الفني ومدى تحقيق أهدافه، فضلاً عن التحكم بالوظيفة وتوجيهها، مع إبراز الجانب الجمالي للموضوع المطروح، لاسيّما فيما يتعلق بالملصق تحديداً. فالفنان المصمم هو إنسان مرهف الحس، مدعو إلى التفاعل مع المشكلات التي تواجه الإنسان، وبمراحل متعددة ومختلفة الأسباب والتوجهات. والمصمم هو جزء من المجتمع. بل إنه المتأثر الأول من جراء الحدث بزمانه ومكانه، ويُعلن موقفه بالنسبة إلى الحياة والمجتمع والآخرين. فهو يبدع كي يتقدم العالم. ويفرّق المؤلف بين المكان في العمل الفني التشكيلي والزمن في فنون التصميم «لاسيّما الملصق» وذلك في تفسيرات وأهداف بناء الفكرة والمعنى، فقد يكون التعبير المكاني عند الفنان التشكيلي مختلفاً من ناحية الأولويات للناحية الجماليّة وتقديمها على الناحية التطبيقيّة، من جهة، وإبراز المعالم التعبيريّة من خلال الأشكال والألوان والكتل، فضلاً عن التكوينات المجسمة والمدورة والتقانات المختلفة، من جهة أخرى.
مكونات الملصق
يتكون الملصق «كما يرى المؤلف» من الصورة الطباعيّة التي تُعتبر إحدى العناصر التيبوغرافيّة المهمة في التصميم الطباعي ككل، وفي الملصق تحديداً، لما لها من قوة تعبيريّة، تسهم في إيصال الفكرة، وخلق لغة بصريّة موضوعيّة. وهي إما سياسيّة، أو عسكريّة، أو صناعيّة، أو زراعيّة، أو أدبيّة، أو فنيّة أو تعليميّة..إلخ. بعد الصورة، تأتي الكتابة والرسوم، وللكتابة أثر بالغ الأهميّة في تصميم الملصق، لاسيّما ذلك الذي يُشكّل أداة اتصال إعلاميّة مهمة، لذلك يجب أن تكون الكتابة واضحة، مختصرة، ومعبّرة تماماً عن فكرة الملصق، وسهولة قراءتها ولو بنظرة خاطفة وسريعة، فضلاً عن ارتباطها بمحتويات الملصق الأخرى. وقد يستخدم المصمم الرسوم بأنواعها كجزء مهم في الملصق. والمكوّن الأخير في الملصق العناوين التي تُعد من خلال سمك حروفها وألوانها، ذات دور كبير في تحقيق الهدف الاتصالي، لاسيّما في الملصق. فالعنوان هو المادة المكتوبة التي تحتل المكان البارز والمهم، بحيث يكون عامل جذب وشد للانتباه للتأثير في المتلقي. أي أنه سيمثل شكلاً تتحدد دلالته الشكليّة تبعاً لموقعه في الفضاء العام في التصميم.
العولمة والملصق
يعد مصطلح العولمة Globalization من المصطلحات المعاصرة التي لامست مختلف نواحي الفكر والحياة والفن، بما فيها الملصق بوصفه جزءاً من عملية الاتصال الحديثة والجماهيريّة التي تخاطب مجتمعاً كاملاً. والعولمة بمفهومها المثالي هي متغيرات جديدة، تنشأ في إقليم ما في العالم، سرعان ما تنتقل إلى أقاليم العالم الأخرى، منشئةً نوعاً من الاعتماد المتبادل بينهما، وهي إكساب الشيء طابع العالميّة، وبخاصة جعل نطاقه وتطبيقه عالمياً. وكذلك يستخدم البعض مصطلح International الذي يعني التدويل، أو العالميّة للتعبير عن هذا المفهوم. والحقيقة يُعتبر الملصق إحدى صور ووسائل العولمة الثقافيّة المؤثرة، ففكرة عولمة الثقافة هي من أبرز وجوه العولمة وتعني: صياغة مكوّن ثقافي عالمي وتقديمه أنموذجاً ثقافيّاً، وتعميم فهمه ومعاييره على كل العالم، في ظل نظام دولي جديد يخضع للهيمنة الأمريكيّة. إن العولمة الثقافيّة ما هي إلا هيمنة للثقافة والقيم الأمريكيّة من خلال نظم الاتصال الحديثة، ومنها الملصق الذي بدأت التقانات واللمسات الأمريكيّة واضحة في تكويناته البنيويّة وكيفيّة تفعيل رموزه، وفق متغيرات الزمان والمكان والمعلومات والأفكار، وتعني العولمة فيما تعنيه، زيادة معدلات انتقال المعلومات والأفكار والأنماط والسلوك الإنساني والقيم، وزيادة انفتاح المجتمعات بعضها على البعض الآخر، وتعني أيضاً زيادة الاتصال والتأثر والانتقال ما بين العناصر القابلة للانتقال.
التاريخ: الثلاثاء2-4-2019
رقم العدد : 16946