الملحق الثقافي..اعداد:رشا سلوم:
موقع شعرنا جيد جدا اذا قسته بالشعر الإنكليزي او الفرنسي او الاسباني لانه شعر قضية من لا يتذكر تلك اللحظات التي توقف فيها القلب الكبير عن الخفقان ومضى صاحبه في درب الخلود تاركا ميراثا في الابداع يصل إلى عنان السماء ها قد مضى على الذكرى واحد وعشرون عاما وكأنها امس في نيسان عام ١٩٩٨ كانت سمفونية الرحيل نزار الشاعر والإنسان صاحب فعل التغيير بكل شيء كما البحر لا تعرف من اي الشواطئ تلجه ولكن لا باس الكثيرون حاولوا سبر الغور العميق بدراسات وكتب وحوارات وكان الملحق الثقافي لجريدة الثورة من هؤلاء إذ أجرى معه لقاء مطولا نختار منه:
-اهميتي في الشعر تنبع من اني اتيت بلغة جديدة. صحيح اني لم اكسر الهيكل العظمي للقصيدة التقليدية لكني تجاوزتها وطورتها وفي قصائد تستطيع ان تجد التراث مع أشياء العصر هل تستطيع ان تقول عن هذا البيت انه تقليدي:
ياشعرها على يدي
شلال ضوء اسود
تخيلت حتى جعلت العطور ترى
ويشتم اهتزاز الصدى
أو:
انا عنك مااخبرتهم لكنهم
لمحوك تغتسلين في احداقي
*اذن انت لست ضد القصيدة التقليدية؟
– لا أنا لست ضدها وماالشكل الا معطف خارجي يغيره الانسان حين يشاء والمهم ان يكون متناسبا مع الجسد الذي يرتديه.
* للقصيدة ولادات مختلفة فكيف تولد عندك..؟
-هذا سؤال لايطرح لان المدينة لاتعرف متى يأتيها الزلزال وليس للشعر توقيت معين انه يهجم عليك في أوقات لاتتوقعها واجمل قصائدي كانت تأتيني في الأوتوبيس او الطريق او في أي مكان اخر. انك حين تعرف متى تأتيك القصيدة تصبح زوجها وانا افضل للشاعر ان يظل حبيب القصيدة لا زوجها.
من هم الشعراء الذين اضافوا إضافات حقيقية الى تاريخ الشعر… بعد جيل الرواد طبعاً.؟
– بعد الخمسينيات أضاف ادونيس لكن اللعبة اللغوية جرته الى امكنة لايريدها ومن الذين اضافوا ببراعة واضاءة محمود درويش لان قصيدته بعد خروجه من الأرض المحتلة نضجت وأصبحت ذات ابعاد.. ثلاثة وانا حاليا لاارى غيرهم لان البقية يكررون انفسهم على حين يجب على الشاعر ان يغير جلده يوميا ولون عيونه ولسانه ان استطاع.
*وبلند الحيدري وعلي الجندي ألم يقدما شيئاً؟.
-بلند اعطى في الخمسينيات وما يعطيه الان لا يتجاوز مااعطاه سابقاً. اما علي الجندي فقصائده الأولى كلاسيكية بحتة وهو الان يتجاوز ذاته ويحاول الإضافة للقصيدة ضمن المنظور العام للشعر الحديث.
*موقع شعرنا من الحركة الأدبية العالمية اين هو الان لاسيما بعد ان اختارت احدى دور النشر العالمية محمود درويش كواحد من ابرز خمسة شعراء عالميين.
-موقع شعرنا جيد جدا اذا قسته بالشعر الإنكليزي او الفرنسي او الاسباني لانه شعر قضية يدور حول هموم الانسان في منطقتنا وقد كان الانسان الجزائري او الفلسطيني والفيتنامي في وقت من الأوقات الشغل الشاغل للناس ومحمود درويش يستحق مكانته بكل جدارة لانه عنده المحتوى الكافي ليكون عالميا ثم اني لا اعطي لقضية العالمية أهمية كبرى لان من يستطيع ان يعبر عن هموم بلده هو عالمي بالضرورة.
*لننتقل الى مايسمى بانهيار المثقفين الكبار ماهي أسبابه وبماذا تعلل كثرته هذه الأيام..؟
-هذه الانهيارات سببها الخيبة لان الشاعر الذي يرى حلمه ينكسر سيبحث عن بديل قد يكون غيبوبة صوفية او انتحاراً او قرفا او سكوتا ولاشك ان الكاتب الحقيقي الذي يرى الادباء يركبون حصان الحاكم ويتبادلون السروج سيصاب بصدمة كبيرة اضف الى ذلك ان الحكام يرغبون في ترويض الكتاب وتحويلهم الى شعراء بلاط يأخذون نفس الدور الذي قام به اسلافهم.
*كتبت جيدا عن رئيس دولة عربية وثانية عن وزير دولة أخرى وها انت اليوم في عرين ملوك البترول الذين قلت فيهم مالم يقله مالك في الخمر؟
-انا لم اتقرب ولن اتقرب وكنت استطيع ذلك لو اردت لكني مكتف برغيف العيش اكله انا وزوجتي وأولادي والذي لديه دعوى أخرى فليتفضل وليحاسبني.
*غالي شكري قال عنك أيضا في كتابه» ثقافتنا بين نعم ولا» انك شاعر موجه.
-الوسط الثقافي في بيروت يستطيع ان يقول لك من هو صاحب الموجة انا ام هو..!!!
– نزار مااحب قصائدك اليك؟
– احب القصائد التي فيها دراما او لنقل القصائد المسرحية اكره القصائد التي تحاول ان ترسم وضعا متجمدا كما في قالت لي السمراء وانت لي. واعتبر قصائدي التي تقف عند موضوع بعينه كالمايوه والعقد قصائد هابطة. اما حين دخلت مع المرأة في معركة وجودية كما رسالة من سيدة حاقدة وصوت من الحريم وكتاب يوميات امرأة لامبالية أصبحت اقاتل في سبيل كسب قضية فالغزل لم يعد غزلا بحد ذاته بقدر ماكانت هناك معركة أحاول ربحها لصالح المرأة.
وفي حوار اجرته معه سعاد الصباح ونشرته مجلة العربي يتحدث عن الكثير من القضايا التي تهم الثقافة والابداع العربي ومن هذا الحوار نقتطف : الحب هو طموح نحو المعرفة، والاكتشاف، والتنبؤ. إنه مادة دائمة الاشتعال، وسفر بلا انتهاء.. وطرح مستمر للأسئلة.
نحن حين نحب، فإننا نخلق الشخص الآخر الذي نحبه، كما هو يخلقنا. وإذا كان الحب كبيرا وحقيقيا فإن عملية الخلق هذه لا تنتهي. أي أن الحب يتحول بين العاشقين فى نوع من الإبداع إنني بعد خمسين عاما من الكتابة عن الحب، لا أشعر أبدا أنني استهلكت هذه المادة السحرية المشعة التي أشتغل عليها.
فما دام حبي، يتجدد، ويتغير، وبغير أشكاله، وأفكاره وحواره كل يوم فإنه لن يدخل منطقة الكسوف.
ومادام (الآخر) الذي نحبه، لا يتوقف عن إحداث الدهشة والمفاجأة لنا.. فإن الحب سيظل مشتعلاً، ومتفجرا، ونضيرا، وغير قابل لمرور الزمن.
المهم أن يبقى الحب دائما مصدر، من مصادر (الدهشة).. وألا يتحول مع الأيام إلى روتين وعادة يومية.
– كتبت ذات يوم تقول: (إنك أسست إمبراطورية شعرية، أكثر مواطنيها من النساء..) هل النساء هن قارئاتك الوحيدات؟.
– لا.. النساء لسن قارئاتي الوحيدات، ولكنهن أفضل قرائي.. وأجمل قرائي.. وأكثرهم حساسية.. الرجل عندما يقرأ الشعر يقرؤه بعضلاته. أما المرأة فهي تقرأ الشعر بعيون أنوثتها..
الرجل يذهب إلى الأمسية الشعرية وهو مدجج بخشونته، وعجرفته.. وغلاظته..
والمرأة تذهب إلى الأمسية الشعرية، وهي مضرجة بابتسامتها، وعطرها، ورقتها، وإحساسها الحضاري..
أذكر أنني دعيت لأقدم أمسية شعرية في إحدى الدول الخليجية، وعندما اكتشفت أن الأمسية هي (للرجال فقط)، بدأت أتلعثم.. وآكل نصف حروفي.. وشعرت بأنني أقرأ شعري في غابة من الأشواك والمسامير..
كانت تلك الأمسية من أفشل أمسياتي الشعرية، أقسمت بعدها ألا أعود إلى هذه التجربة الذكورية المالحة أبدا…..
– هذا كلام جميل يرفع معنويات النساء، فالمرأة العربية بحاجة إلى من يرفعها إلى الأعلى، ويؤكد لها أنها كائن شعري رقيق لا مجرد ماكينة لتفريخ الأطفال، وطهو الطعام، وغسيل الصحون.
– هذا كلام قلته منذ الخمسينيات، ولا أزال أقوله في التسعينيات.
فالمرأة حجر أساسي في بناء الحياة، وبناء الحضارات:
(لن ندخل إلى نادي المتحضرين
ما لم تتحول المرأة لدينا
من شريحة لحم ..
إلى معرض أزهار..)
الخيار الصعب
– كان شعر الحب المحطة الرئيسية في مسارك الشعري. وكنت سيدا من أسياد الشعر الغزلي على مدى خمسين عاما. ثم انتقلت إلى حقل مختلف تماما، وهو حقل الشعر السياسي، حتى صار الناس يتابعون شعرك السياسي بالحماس ذاته الذي كانوا يتابعون به شعرك الغزلي. إذا طلبنا منك أن تقول لنا بصراحة مع أي المرحلتين تتعاطف. فماذا تقول؟.
– بكل صدق أقول إننى متعاطف مع شعري الغزلي ضد شعري السياسي. والسبب هو أنني (جررت) إلى الشعر السياسي جرا بحكم الأحداث المتفجرة التي أشعلت المنطقة العربية.
أما شعر الحب، فقد ذهبت إليه باختياري.. ولم يجرني إليه أحد..
وبتعبير آخر، أشعر أنني في شعري الغزلي كنت سيدا على أوراقي، بينما كنت في شعري السياسي خاضعا لسلطة التاريخ السياسي علي، وضغط الأحداث على أصابعي وأعصابي.
ربما لم أقل هذا الكلام قبل الآن لأحد..
ولكنني اليوم أسجل هذا الاعتراف حتى أبرئ ذمتي أمام تاريخ الشعر…
– ولكن هل هذا يعني أنك ستستقيل من الوطن، لتعود إلى المرأة.. مثلما استقلت من المرأة ذات يوم، لتتزوج الوطن؟.
– لا أحد يستطيع أن يستقيل من وطنه. فالوطن هو عشق من نوع آخر، وطبيعة مختلفة.
كل ما أستطيع أن أقوله هو أنني وصلت إلى معادلة شعرية يصبح فيها الوطن هو الحبيبة، وتصبح الحبيبة فيها وطنا. كما في قصيدتين جديدتين من قصائدي: (مع صديقة في كافيتيريا الشتات) و (فاطمة تشتري عصفور الحزن).
وأنا سعيد جدا بهذا الزواج الذي استطعت أن أعقده بين جسد الوطن، وجسد المرأة، وبين الياسمين المعرش على جدران مدينتي.. والياسمين المعرش على ضفائر حبيبتي.
(إني أحبك، كي أبقى على صلة
بالله، بالأرض، بالتاريخ، بالزمن
بالماء، بالزرع، بالأطفال إن ضحكوا
بالخبز، بالبحر، بالأصداف، بالسفن
بنجمة الليل، تهديني، أساورها
بالشعر أسكنه، والجرح يسكنني
أنت البلاد التي تغطي هويتها
من لا يحبك.. يبقى دونما وطن).
الشاعر وإشارات المرور
– في سيرتك الذاتية القصيرة (خمسون عاما مع الشعر) تقول: ( لا تعذبوا أنفسكم في تصنيفي. إنني شاعر خارج التصنيف، وخارج الوصف والمواصفات. فلا أنا تقليدي، ولا أنا حداثوي، ولا أنا كلاسيكي، ولا أنا نيو- كلاسيكي، ولا أنا رومانسي، ولا أنا رمزى، ولا أنا ماضوي، ولا أنا مستقبلي.. ولا أنا انطباعي، أو تكعيبي، أو سريالي.. إنني خلطة حرية..) فالى أين تأخذك الحرية؟.
– إنني لا أناقش الحرية، ولا أطلب منها أن تعطيني خارطة الطريق. فالحرية تعرف دائما طريقها.
الحرية تحررني من كل الضغوط التي يمارسها التاريخ على أصابعي.
تحررني من كل أنظمة السير، ومن كل إشارات المرور.
الحرية تحميني من غباء آلات التسجيل، ومن السقوط بين أسنان الآلات الناسخة.
تحميني من ارتداء اللباس الموحد، والقماش الموحد، واللون الموحد. فالقصيدة ليست مجندة، ولا ممرضة، ولا مضيفة طيران.
الحرية تسمح لي بأن ألبس اللغة التي أشاء في الوقت الذي أشاء.
لا أسمح لأحد أن يتدخل في أشكالي.
فلقد أكتب المعلقة الطويلة، ولقد أكتب (التلكس) الشعري القصيدي، ولقد أكتب قصيدة التفعيلة، أو القصيدة الدائرية أو قصيدة النثر. ولقد أتزوج القافية ذات ليلة.. وأطفقها في اليوم التالي..
وقد أتصعلك كعروة بن الورد.
وقد أرتدي السموكن كاللوردات الإنكليز.
وقد أعزف الجاز، وأغني على طريقة (البيتلز).
إن حريتي تدفعني إلى ارتكاب حماقات كثيرة.. ولكنني لا أعتذر.. ولا أندم.. فالشعر بدون حماقة هو موعظة في كنيسة.. وبيان انتخابي لا يقرؤه أحد.
وهم الألقاب الشعرية
– التقليديون لا يعتبرونك تقليديا، والأصوليون لا يعتبرونك أصوليا، والحداثيون لا يعتبرونك حداثيا.. فمن أنت إذن في زحمة الألقاب الشعرية؟.
– أنا نزار قباني فقط. دون إضافة أي حرف، ودون حذف أي حرف. أنا هذه الرائحة الخصوصية التي يشمها القراء العرب، ولو كنت مقيما فى الصين الشعبية، أو في جزر القمر..
أنا هذه البصمات الواضحة على الورق، والتي لا يمكن لأحد أن يقلدها أو يزورها.
أنا هذه اللغة التي اشتغلت في نحتها كالصائغ على مدى خمسين عاما، ولم يتمكن أي صائغ آخر من صياغة لغة تشبهها في بساطتها، وديناميكيتها، وديمقراطيتها.
إنني لست بحاجة إلى أي لقب سلطاني، أو إلى أي فرمان عثماني حتى أعرف من أنا.
فالألقاب الشعرية لا تصدر (من فوق).. بل تصدر (من تحت).. حيث الملايين تبحث عن كسرة خبز.. أو كسرة حرية.
من هذه الملايين استمد سلطتي الشعرية، ومن هذه الملايين أتسلم أوراق اعتمادي كسفير فوق العادة للطيبين، والبسطاء، والمعذبين في الأرض.
ومن هذه الملايين أنال أصواتي الانتخابية، لا من وزارات الثقافة، ولا من النقاد، ولا من أجهزة المباحث.
– أنت تعتبر الجمهور المحكمة العليا التي تتولى الفصل فى قضايا الشعر. في حين تعتبر جماعة الحداثة أن التواصل مع الجمهور عمل مسيئ للشعر ومناقض له، وأن الشاعر الكبير هو شاعر لا جمهور له، لأن الجمهور يستمع إلى الشعر بغرائزه، وذاكرته التاريخية، وذوقه المتخلف.. فكيف تفسر كلامهم؟.
– القول إن (الشاعر الكبير هو شاعر لا جمهور له).. هو قول لا يصدر إلا عن الفاشلين، والمحبطين، والمعقدين..
إنه نكته سمجة لا تضحك أحدا.
الحداثيون يحتقرون الجمهور لأنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إليه.. أو يلقوا القبض عليه ليستمع إلى شعرهم.
التاريخ: الثلاثاء30-4-2019
رقم العدد : 16967