لم يكن القبول الفرنسي البريطاني بزيادة عديد قواتهما المعتدية لتعويض النقص الحاصل نتيجة قرار أميركا بسحب بعض قواتها من سورية مفاجئاً ولا هو خارج سياق المتوقع، باعتبار أن كلتا الدولتين لم تخفيا أطماعهما من جهة، ولا الحنين إلى الماضي الاستعماري من جهة ثانية، وفي الوقت ذاته لم يمتلكا في يوم من الأيام الجرأة على رفض طلب أميركي اعتاد أن يكون جزءاً من ضريبة الدور المهمش للسياسة الأوروبية في العقود الأخيرة.
فقد تسابقت بريطانيا وفرنسا في الحقبة الأخيرة للاستحواذ على وظيفة ساعي البريد لمتطلبات الحروب الأميركية بكل ما تقتضيه حضوراً على الأرض أو في كواليس السياسة ومنابر الإعلام، ومارستا تحت هذا العنوان دوراً مشبوهاً وتآمرياً بامتياز في كل الأحيان ومفضوحاً إلى حد غير مسبوق في معظمه، ووصل الأمر بهما إلى القبول بأدوار وظيفية داخل منظومة الهيمنة الأميركية، لا تقبل به أشباه الدول ولا حتى الدول «الميكرونية» التي تحتاج إلى مجهر جغرافي لتلحظها على الخريطة أو تلك المستجدة على الخريطتين الجغرافية والسياسية.
فالتحول في الدورين البريطاني والفرنسي ليس استعادة للدور الاستعماري بشكله التقليدي، ولا يلامس توازع الأدوار في المشهد الدولي، بل يشكل في أغلب الأحيان دوراً تابعاً وهزيلاً للأميركيين وصل إلى حد الإذعان، ورغم محاولات تقمّص الدور الاستعماري، فإن أقصى ما تمكنتا من تحقيقه يبقى دوراً في فلك التبعية المطلقة لأميركا وما تريده، وكانتا جزءاً من أدوات الهيمنة الوظيفية التي تكرس المعادلة القائمة بأن أوروبا خرجت من دائرة التأثير في السياسة الدولية، وتحولت في أقصى الحالات إلى منفذ طيِّع يقبل بأدوار هشة تعف عنها الدول الهامشية.
المعضلة الكبرى تبقى في الأوهام التي تبيع وتشتري فيها الطبقة السياسية في البلدين، والتي تحاول أن ترسم صورة افتراضية عن أدوار تعيد رسم الماضي بصورة التمنيات، رغم ما تدركه أن الماضي ذهب ولم يعد، ومحاولة التمسك بالأوهام المعاصرة، لا يخرج عن سياق البحث عن ذرائع لتبرير الخنوع، وفي أفضل الحالات يبقى اجتراراً لدور بالغت أوروبا في تبعيتها للسياسة الأميركية.
فالحضور الأميركي أو الغياب ليس نتاج رغبة أميركية بحتة، بقدر ما هو نتاج ظروف ومعطيات اضطرته للبحث عن مخارج، ولو أن أميركا رأت الكفة تميل لمصلحتها لما فكرت في الفرنسيين والبريطانيين، ولما أعدتهم لهذا الدور، ولما طلبت منهم قوات تدرك أن ضريبتها ستكون مرتفعة سياسياً وبشرياً، ويضاف إلى ذلك كله أن الحضور الأميركي لا يشبه غيره، ولا تستطيع بريطانيا وفرنسا أن تسدا الحد الأدنى من الفراغ الذي سيحدثه غيابها أو تقليص هذا الغياب.
الأخطر يبقى أن الفرق القائم لا يقتصر على الأدوار ومدى قدرتها على المواءمة بين أهدافها، ولا على الثقل السياسي الذي يجسده الحضور الأميركي، والذي يفتقده الفرنسي والبريطاني على حد سواء، كما أنه لا يتعلق بالإرث الاستعماري الذي يراكم من الأخطاء الفرنسية والبريطانية فقط، بل في حتمية المواجهة التي تفرض نفسها على الوجود الاحتلالي للفرنسيين والبريطانيين، وهي مواجهة ربما تأجلت لبعض الوقت نتيجة معادلات وحسابات لعبت الظروف الدور الأساسي فيها، لكنها ستفرض إيقاعها في نهاية المطاف، حيث لا قدرة للفرنسيين والبريطانيين على تحمّل وزرها والثمن الباهظ المكلّف لها بشرياً كما هو اقتصادياً وبطبيعة الحال سياسياً.
a.ka667@yahoo.com
الافتتاحية بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
التاريخ: الجمعة 12-7-2019
الرقم: 17022