الثورة – لينا شلهوب:
من بين الركام، تنهض الحياة من جديد، وفي مدينة حرستا، حيث كان الدمار سيد المشهد لسنوات، تعود ملامح الأمل لتتشكل في أبسط صورها، وأكثرها أهمية: مقاعد دراسة وسبّورات وأحلام صغيرة تنتظر أن تُروى بالحبر والمعرفة، إنها ليست مجرد أعمال إنشائية، بل هي معركة وجود يخوضها المجتمع السوري لإعادة بناء الإنسان، من خلال بناء المدرسة.
بهذا المعنى العميق، انطلقت أعمال ترحيل أنقاض مدرسة إسماعيل الريس في حرستا، التي لها صبغة خاصة، وذلك ضمن مشروع مشترك تشرف عليه وزارة التربية والتعليم، بالتعاون مع مديرية التربية والتعليم في ريف دمشق، وفريق “ملهم التطوعي” الذي حمل على عاتقه مهمة أن تكون المساهمة المجتمعية شريكاً فعّالاً في إعادة الإعمار التعليمي، وبهذا الجهد الجماعي، تدخل حرستا مرحلة جديدة من التعافي، تُعيد فيها لطلابها حقهم في بيئة تعليمية آمنة، تليق بكرامتهم وطموحاتهم.
عودة الحياة
كانت ثانوية “إسماعيل الريس” واحدة من أهم المدارس في مدينة حرستا، قبل أن تخرج عن الخدمة بفعل الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية للمدينة جراء القصف والتصعيد خلال سنوات الحرب.

ومع انتهاء العمليات العسكرية وعودة الاستقرار تدريجياً إلى المنطقة، وُضعت هذه المدرسة على رأس أولويات إعادة الإعمار التعليمي، ليس فقط لما تمثّله من قيمة تعليمية، بل لما تمثّله أيضاً من رمزية في وعي أبناء المدينة. بدأت الخطوة الأولى،
كما يؤكد مدير التربية والتعليم في ريف دمشق فادي نزهت، بترحيل الأنقاض وإزالة الركام، وهو ما تم بالتنسيق المباشر بين وزارتي الإدارة المحلية والبيئة، والتربية والتعليم، ومديرية التربية والتعليم في ريف دمشق، والمجتمع المحلي، وفريق “ملهم التطوعي”، الذي سخّر خبراته وإمكاناته لتسهيل وتسريع عمليات التأهيل، ويتوقع أن يتم بناء مدرسة جديدة مكان القديمة، بمواصفات حديثة تضمن بيئة تعليمية آمنة، ومناسبة للطلاب والمعلمين على حد سواء، لتليق بالطلاب وبسوريا الجديدة.
رؤية للمستقبل

بحسب مسؤول الأبنية المدرسية والتعليمية المهندس محمد الحنون فإن المدرسة الجديدة ستكون نموذجاً متطوراً للبناء المدرسي، يعتمد على معايير هندسية حديثة، تأخذ بعين الاعتبار السلامة الإنشائية، والتهوية، والإضاءة، والمساحات الخضراء، ومرافق النشاطات اللا صفية، مؤكداً أن المخططات الجديدة تتيح للمدرسة استيعاب عدد لا بأس به من الطلاب، مما يعزز من قدرة المدينة على احتضان أطفالها مجدداً في مدارسها الرسمية. وأضاف: إن هناك ما يقارب من 165 مدرسة خارجة عن الخدمة بريف دمشق، ويتم العمل حالياً في 20 مدرسة لإعادة التأهيل عبر تنفيذ العديد من أعمال الصيانات الثقيلة في هذه المدارس. مصادر في تربية ريف دمشق بينت أن هذا المشروع هو جزء من خطة أوسع تشمل إعادة تأهيل عشرات المدارس المتضررة في مناطق الغوطة الشرقية، وأضافت: حرستا كانت وستبقى مدينة العلم، وما نقوم به اليوم هو واجب وطني وتربوي، نحن لا نبني جدراناً فقط، بل نُعيد بناء الثقة، ونرسم ملامح مستقبل يستحقه أبناء هذه المدينة.
جهود مجتمعية
يلعب المجتمع المحلي دوراً محورياً في هذا المشروع، وخاصة من خلال فريق “ملهم التطوعي”، الذي أثبت أن العمل المدني قادر على ملامسة احتياجات الناس الحقيقية، وقال أحد مسؤولي الفريق: نحن نؤمن أن التعليم هو حجر الأساس في بناء أي مجتمع، ولهذا كانت مشاركتنا في إعادة مدرسة إسماعيل الريس نابعة من قناعة بأن المستقبل لا يُبنى إلا من خلال الكلمة والمعرفة، منوهاً بأنه تم التعاون مع وزارة التربية وهو نموذج يُحتذى به في التكامل بين العمل الحكومي والمدني.فيما عبّر عدد من أهالي المنطقة عن امتنانهم العميق لهذه الخطوة، مؤكدين أنها تعيد إليهم الأمل بأن أبناءهم لن يُحرموا من حق التعلم، إذ تقول أم خالد والدة لأربعة طلاب: مدرستنا هي بيتنا الثاني، دُمّرت كما دُمّرت بيوتنا، ولكن اليوم نشعر أن الحياة تعود فعلاً ليس فقط بالحجارة، بل بالأمل وبناء سوريا.
ركيزة النهوض
لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار حقيقية من دون وضع التعليم في قلب المشروع الوطني، فبينما تُبنى الطرق وتُؤهّل شبكات الكهرباء والمياه، يبقى بناء العقول هو الاستثمار الأذكى والأكثر استدامة، وفي هذا السياق، يُشكّل مشروع مدرسة إسماعيل الريس نموذجاً يُحتذى به في إعادة إحياء المؤسسات التعليمية في المناطق المتضررة.وتؤكد مصادر تربوية أن هذه الخطوة ستُتبع بمشاريع مشابهة في مدن وبلدات عدة ضمن ريف دمشق، تشمل تأهيل المدارس، وتزويدها بالكوادر والمناهج الحديثة، وربطها بمراكز دعم نفسي واجتماعي، لمساعدة الطلاب على تجاوز آثار الحرب والانخراط مجدداً في الحياة المدرسية.
من الدمار يولد الأمل في مدرسة إسماعيل الريس، لا تُبنى الجدران فقط، بل تُعاد كتابة قصة مدينة عانت، وها هي اليوم تُثبت أن إرادة الحياة أقوى من الموت، وأن صوت الأطفال وهم يرددون الحروف الهجائية، أقوى من كل دويّ المدافع..إنها رسالة من حرستا إلى الوطن كلّه: لن نُهزم، وسننهض من تحت الركام، ومع كل مدرسة تُفتح، نُغلق صفحة من الألم، ونفتح صفحة جديدة من البناء والإصرار.