الثورة – هنادة سمير:
في عالم اليوم، أصبحت الحوكمة شرطاً أساسياً لبناء اقتصاد قوي ومستدام، فهي تعني ببساطة الإدارة الرشيدة التي تقوم على الشفافية، والمساءلة، والمشاركة، وسيادة القانون، وفي الدول الخارجة من أزمات كبرى، كحال سوريا ما بعد التحرير، تبرز الحوكمة كأحد أعمدة إعادة الإعمار والتنمية، خصوصاً في مجال ريادة الأعمال الذي يشكل محركاً أساسياً لخلق فرص عمل وتجديد الاقتصاد.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل تمتلك سوريا اليوم بيئة حوكمة قادرة على حماية رواد الأعمال ودفع مشاريعهم إلى الأمام، أم أن ضعف الأنظمة والمؤسسات سيبقى عائقاً أمام الطاقات الشبابية والاستثمارات الجديدة؟
يشير خبير الحوكمة والتحول الرقمي الدكتور أحمد فراس حمادة في حديثه لـ”الثورة” إلى أن الحوكمة تختلف عن الإدارة التقليدية كونها لا تقتصر على تسيير العمل، بل تشمل وضع قواعد واضحة تحكم العلاقة بين الدولة، والمؤسسات، والأفراد، على أساس من الشفافية والعدالة، مبيناً أنها تقوم على أربعة مبادئ رئيسة، تتلخص في المساءلة، ومحاسبة من يتولى المسؤولية، الشفافية وما تعنيه من وضوح القوانين والإجراءات والبيانات، إضافة إلى سيادة القانون من خلال تطبيق القواعد على الجميع بلا استثناء وآخرها الشراكة أو إشراك المجتمع، بما فيه رواد الأعمال، في صياغة السياسات.
ويوضح د. حمادة أن هناك نوعين رئيسين: الحوكمة الداخلية، وتشمل آليات الرقابة والشفافية داخل الشركات، مثل آليات اتخاذ القرار، حماية حقوق المساهمين، والإفصاح عن البيانات المالية، فيما الحوكمة الخارجية: وهي الإطار القانوني والمؤسسي الذي تضعه الدولة، كالقوانين الناظمة، الجهات الرقابية، والأنظمة الضريبية.
ويبين أن وجود توازن بين هذين النوعين في سوريا يجعل بيئة ريادة الأعمال مستقرة، فيما يؤدي غيابه الى نتائج خطيرة أحياناً على المستثمرين ورواد الأعمال على حد سواء، وعندما تتجسد هذه المبادئ، في الواقع فإنها تخلق بيئة اقتصادية جاذبة للاستثمار، وتدعم نمو الشركات الناشئة، وتوفر الحماية القانونية لحقوق الملكية الفكرية والعقود.
واقع الحوكمة
يؤكد الدكتور حمادة أن غياب الحوكمة عن مؤسسات الدولة خلال العقود الماضية أدى إلى ترسيخ البيروقراطية والفساد، وخلق اقتصاداً غير رسمي يبتلع القسم الأكبر من النشاط الاقتصادي. ومع اندلاع الحرب، ازدادت التحديات من حيث انهيار البنية الرقابية، وانكماش الثقة بين المواطن والمؤسسة العامة.
ويبين أن ريادة الأعمال، بطبيعتها، تحتاج إلى بيئة قانونية وتنظيمية مستقرة لكنها في سوريا تسير كالعرجاء فكثير من رواد الأعمال يشكون من التراخيص المعقدة والشاب الذي يرغب في إطلاق مشروعه يجد نفسه أمام دوامة طويلة من الموافقات والإجراءات، كما يعاني رواد الأعمال من نقص التمويل وهناك مسألة الملكية الفكرية، إذ يؤدي ضعف القوانين أو عدم تطبيقها الى جعل الأفكار المبتكرة عرضة للسرقة، ويفتح الفساد الباب أمام المحسوبية بدلاً من الكفاءة.
ويشدد الدكتور حمادة على أن الحوكمة هي حجر الزاوية لأي عملية إصلاح اقتصادي فلا يمكن الحديث عن جذب استثمارات أو دعم ريادة الأعمال في ظل بيئة يغيب عنها الوضوح القانوني، فالمستثمر يحتاج إلى الثقة بأن أمواله وأفكاره في مأمن من الفساد.
الحوكمة الغائبة عن ريادة الأعمال
يشير الخبير حمادة إلى أن سوريا لا تملك حتى الآن استراتيجية واضحة لدعم قطاع التطبيقات أو تحويل الشركات الناشئة من مشاريع ريعية صغيرة إلى قطاع ربحي منظم يسهم في الناتج المحلي الإجمالي. ويوضح انه لا توجد سياسات متكاملة تعترف بريادة الأعمال كجزء من الاقتصاد الوطني، وغالباً تُترك الشركات الناشئة وحيدة أمام عراقيل التراخيص والتمويل.
ويعتبر أن أول عائق يواجه الشركات الناشئة هو الاستراتيجية الجبائية المرهِقة، إذ تتحول الضرائب والتراخيص إلى حاجز بدل أن تكون وسيلة لتنظيم السوق، ويضيف: على سبيل المثال تم إجبار الشركات الناشئة في مجال التطبيقات على الحصول على تراخيص من الهيئة الناظمة للاتصالات من دون وضوح الغاية من ذلك مع وجود قوانين أخرى تحكم عمل الشركات مثل قانون الجريمة الالكترونية وقانون البيانات الشخصية.
وذكر د. حمادة أنه خلال سنوات الحرب كان هناك مبادرات من منظمات دولية وجمعيات تشارك رواد الأعمال الشباب ومن بين كل 100 مشروع ناشئ لا يعيش سوى 15بالمائة خلال السنة الأولى، وذلك لعدم وجود إطار إداري متكامل يساعد رائد الأعمال على اتخاذ قرارات صائبة.
معاناة مستمرة
عبر عدد من رواد الأعمال في حديثهم لـ””الثورة” عن معاناتهم المستمرة في إطلاق مشاريعهم الناشئة، إذ اشتكى البعض من أن إجراءات الترخيص الطويلة والمعقدة تستهلك جهداً ووقتاً كبيرين، ما يعوق انطلاقة مشاريعهم الناشئة، وآخرون أشاروا إلى أن غياب الحوافز الضريبية والتمويل الميسر يجعل رواد الأعمال أمام خيارين: إما البقاء في السوق الرمادية أو الهجرة بأفكارهم.
وأوضح البعض أن سوق التطبيقات في سوريا غير محكوم بضوابط واضحة، ما يترك المجال للفوضى ويفقد المستثمرون الثقة.
فيما ذكر أحدهم أن البيئة التشريعية الحالية تحاصر الابتكار بدل أن تفتح له المجال، مستشهداً بصعوبات تسجيل العلامات التجارية وحماية الملكية الفكرية.
تجارب دولية
ويشير خبير الحوكمة والتحول الرقمي إلى المقارنة مع دول، مثل: جورجيا ورواندا، اللتان خرجتا من نزاعات مشابهة، يتضح أن الاستثمار في الحوكمة ساعد في بناء بيئة استثمارية جاذبة، تبني قوانين واضحة، وإجراءات إلكترونية، وحماية قانونية شاملة مما جعل من تلك الدول مراكز ناشئة للأعمال، أما في سوريا، فلا تزال الخطوات في بداياتها، ويفتقد القطاع إلى رؤية شاملة.
ويحذر الخبير حمادة من خطورة غياب الحوكمة في ظل التوجه نحو اقتصاد السوق الحر، مبيناً أن دخول الشركات الخارجية المنافسة قد يؤدي إلى انهيار قطاعات محلية بأكملها، مبيناً أن السوق المنفتح لا يرحم، ولا يبقى فيه سوى الأكثر قدرة على التكيّف، أي الشركات المحكومة بأنظمة واضحة والقادرة على اتخاذ قرارات صحيحة في بيئة مليئة بالتحديات ومن دون بناء منظومة حوكمة فعّالة، سنجد أنفسنا أمام خسائر كبيرة بدلاً من فرص للنمو.
حلول مطلوبة
يرى د. حمادة أن أي خطة إصلاحية في سوريا يجب أن تبدأ بتبني استراتيجية حوكمة وطنية تشمل تبسيط إجراءات الترخيص عبر منصات إلكترونية موحدة وتطوير قوانين الشركات الناشئة، والتطبيقات الرقمية، ووضع نظام ضريبي مرن يشجع الاستثمار بدلاً من إثقاله، كذلك تفعيل القضاء التجاري لضمان حقوق المستثمرين، وإشراك رواد الأعمال في صياغة السياسات.
يبقى غياب الحوكمة في سوريا عقبة أساسية أمام تحول الشركات الناشئة من مشاريع هشة إلى قطاع اقتصادي قوي، ومع أن الطاقات موجودة، إلا أن غياب استراتيجية واضحة وفعّالة يجعل ريادة الأعمال تدور في حلقة مفرغة، وإذا كنا عازمين على أن نستفيد في إعادة بناء سوريا ونهضتها من قدرات شبابها وابتكاراتهم، لا بد أن نجعل الحوكمة حجر الزاوية لأي إصلاح اقتصادي مقبل.