في البدء كانت الكلمة, وفي النهاية ستكون, وما بين البداية والنهاية مسافات الفعل والإنجاز, من قال إن اللغة مجرد مفردات وكلمات وجمل, كم هم واهمون أولئك الذين يرونها كذلك, من لم يمتلك ناصية اللغة فهو بالتأكيد خارج دائرة التأثير, وجدران صده ليست مرتفعة, لا نعني البلاغة البلهاء التي تكلست عند نقطة ما حتى جمدت مفردات اللغة من فرط الاستعمال, اللغة التي نعنيها تلك التي تتقطر من ماء الحياة, من صحوها ومطرها, رعدها ومطرها, عقلها وجنونها, من نبض الناس ومن شرايينها, وهي الصورة الأمثل لهم (شوهاء, عرجاء, نقية, كيفما كانت الحال فهي لسان حالهم).
وعلى هذا ليس مخطئا من تتبع عنف اللغة ووقعها ومآلاتها في كل شيء, لن نذهب بعيدا في تتبع سيرها وتحولاتها, فما يجري في سورية من حرب عدوانية على الشجر والحجر والبشر, ترك بصماتها النارية على اللغة, بل في الكثير من أسبابه تلك اللغة المتحفية التي تصبح أقوى من الحياة, ومن إرادة العيش, لغة تكلست في الكثير من الكتب الصفراء, وجاء من تعفن بها, وكانت سيفا لمهماز عقله الشيطاني.
هذا من طرف, ومن طرف آخر, تركت ظلالها على الشعر والأدب والفكر وكل شيء, وما أسرع استجابة الشعر لمتغيرات اللغة وتبدلاتها حين يكون شعرا وبرقا وقبسا من نار, الشاعر والكاتب والأستاذ الجامعي عابد اسماعيل واحد ممن اكتووا بنارها, عاشوها, أدخلوها أتون القلب وناره تأثرا وانفعالا وقدرة على الخروج من متحفية الكون اللغوي الذي يباهي به البعض, في مجموعته الصادرة حديثا عن دار التكوين وجاءت تحت عنوان: أشباح منتصف النهار, يطارد عابد اسماعيل كل شيء, يصطاد السمك من هواء تسخن حتى صار بركانا, ويمضي يفتق في معاني المفردة, يكسر رتم ما كان, وهل الألم غير كسر رتم الصحة والعافية؟
وكم من ألم كان بوتقة إبداع, اشباح عابد اسماعيل في كل ركن وزاوية, ليست ليلية, ولا هي نجوم الظهيرة, بل هي أمامنا, تتراقص, تتخابث, تتفاعل, ولكن من يمد يده ويلقي القبض على بعض نارها؟
قبس من أشباحه
لم يمت رميا بالرصاص, كما اشيع أو بشظية أو حتى بسكتة قلبية, لم يمت بطعنة في الظهر, مثلا, أو بانفجار غامض خلف مبنى البرلمان, أو حتى بحادث سير تافه ونحن الذين دفناه على عجل, لم نجد على جسده أثرا لجرح أو كدمة, او وشم قلنا في سرنا, لعله مات اشلاء, ذرات لا ترى بالعين المجردة, نغمات موسيقية لاتسمع إلا في اقصى درجات الصمت لعله صار خيالا أو طيفا, يسري بين الحلم واليقظة, أو بين الوهم والوهم, وربما لم يمت البتة, وحين دفناه, نحن الذين دفناه, لم نكن ندفن شخصا أو شبحا أو شيئا لعلنا دفنا ضبابا, او شعاعا أو فكرة, لم يمت هذا الذي مات, وحيدا, في غرفة ضيقة مختنقا بأغنية.
بمطارقهم
بمطارقهم جاء الهمج وهشموا أباريقنا, سرقوا نجومنا التي حلمنا بها طويلا في صحونا, الليل اسدلوه كالستارة على الحدائق ورموا بأقماره من الطابق العاشر إلى بئر صدئة في اسفل العالم, الشمس علقوها في المتحف كالمومياء والغابات ملؤوا أدغالها بالريش, الحرية انهالوا عليها ضربا بفوهات بنادقهم, رجموها بالحجارة قصوا ضفائرها, مزقوا ملابسها, وثمة من يقول قطعوا لسانها, وصارت خرساء تصرخ في الشوارع باحثة عن صوتها, لم تترك الحرية صوتا إلا وتعقبت صداه لم تترك بابا مقفلا إلا وطرقته بيدها المضرجة دما, لم تترك قصيدة رواية, أغنية, لم تترك فماً إلا وصارت له هتافا, طيرا ونبتت ريشا على جناحيه, حبكة إلا وصارت لها خاتمة مأساوية, وحده شهريار, سجين خرافاتها يجلس الآن على قبرها, مصغيا لأنين عظامها.
ارتقوا أشلاء
الذين ارتقوا أشلاء في ساحة النجمة خلف مبنى البرلمان صعدت أرواحهم إلى بارئها محمولة على صهوات, لكن قداحاتهم ظلت تلمع, وسجائرهم تومض, ونظاراتهم المكسورة تنزف, الذين كانوا يعبرون الشارع ويتجادلون, نزلت قذيفة, وقسمت كلامهم أنصافا صغيرة أحدهم كان يستعيد حلما, لايتذكره, وآخر يمحو فكرة برقت على عجل, وثالث يشم وردة قطفها عن السياج, ورابع يرسم إشارة في الهواء ويمحوها, وخامس يردد لحنا, يعزف في رأسه منذ الصباح….الشاحنات الصغيرة مرت ودهست صرخاتهم….حين عادوا في الصباح التالي وسائرين خلف ظلالهم رأيناهم يعبرون الساحة ذاتها ويضحكون ويتجادلون، قداحاتهم تلمع وسجائرهم تومض, ونظاراتهم المكسورة تنظر في البعيد البعيد.
وبعد: أليست لغة الفجيعة التي نعيشها خارجة للتو من اتون الحزن, بصخبه, بكل مافيه, كسرت كل رتم مألوف, وأحيت طائر الفينيق, لقد عادوا إلى ساحاتهم..
دائرة الثقافة
التاريخ: الثلاثاء 16-7-2019
رقم العدد : 17025