الملحق الثقافي:قصة: عماد الدين إبراهيم:
كان الرجل يصرخ بين جثتين معلقتين على جدارٍ متهدمٍ مقطوعتي الرأس، ينتحب باكياً حيناً، ويهلوس راقصاً حيناً آخر، يتحرك على الخشبة بين العاقل والمجنون، السعيد والبائس، محاطاً بأكوام القمامة وبقايا الأشياء التالفة. حين بدأ يرقص بحركاتٍ فوضويةٍ تحركتْ الجثتان وكأنهما تحاولان تقليدَ حركاتِه، همسَ بأذني صوتٌ أنثويٌّ من خلفي:
-هل يوجد شخصٌ آخر يحرِّكهما؟
التفتُّ.. فإذا بوجهِ امرأةٍ يلفُّه ظلامُ القاعة، ارتدَتْ قبعةً تغطي كاملَ رأسها، أجبتُ هامساً وظلامُ القاعة يغطي الجميع:
ـ بالتأكيد هناك منْ يحرِّكهما ولكنْ لا يظهرُ على الخشبة.
استمرَّ العرضُ المسرحيُّ، كان الممثلُ الوحيدُ يروح ويجيء بين أكوام القمامة بحركاتٍ عصبيةٍ متوترة، تعكس حياتَه البائسةَ في هذه الخرابةِ بين الجثتين مقطوعتي الرأس، ليبدأ بالبحثِ عن الرأسِ المقطوعة، وجد رأساً معلقةً بين أغصان شجرةٍ عاريةٍ، تناوله بلامبالاةً مفتعلة مقلِّباً إياه بين يديه.
عاد الصوتُ يهمسُ بأذني:
-مِنْ أين جاء بالرأس؟
أجبتُها هامساً:
-كان معلقاً بين أغصانِ الشجرة يبدو أنكِ لم تنتبهي.
-آه… نعم.. نعم.
الممثلُ يحاور الرأسَ محتاراً، يسأله لأيِّ جثةٍ هو؟! وبدأ يجرِّب وضعَه على كلِّ جثةٍ على حِدة، ليكتشفَ أنَّ هذا الرأسَ هو رأسُ أخيه، والجثة التي عثر عليها في حاويةِ القمامة جثة أخيه أيضاً، منذ زمنٍ بعيدٍ لم يلتقيا، كان يظنُّ أنه سافر خارج البلد، فالعلاقة بينهما لم تكن جيدةً.. وساءت حتى انقطعت، ازداد نحيبُ الرجل وهو يتذكَّرُ ما كان يجري من حوارٍ بينه وبين أخيه، ليتنهيَ العرضُ المسرحيُّ بصرخةٍ يؤكِّد فيها هذا الرجلُ البائسُ مقولة: إذا لم تكنْ ذئباً أكلتكَ الذئاب، وأنه ذئبٌ.. نعم هو ذئبٌ رغم أنَّه حاولَ العواءَ ولكنْ لم يخرج صوتُه أبداً.
انتهى العرضُ المسرحيُّ، صفَّق الحضورُ طويلاً، سألتني:
-ألن تخرج؟
-طبعاً سأخرج.
خرجنا معاً، في بهو المسرح حيث الإضاءةُ تكفي للرؤيةِ الواضحة تبادلنا السلامَ والتحيةَ، وكلماتٍ قليلةً عن العرضِ الجيد الذي يحمل مقولةً فكريةً يريدُ إيصالَها للمتفرج، وليس عرضاً فكاهياً للترفيهِ والضحك، أصبحنا خارج المسرح، تفاجَأت المرأةُ بأنَّ ضوءَ النهار ما يزالُ ساطعاً، ولم يحُلّ الليلُ، فأوضحتُ لها أننا دخلنا في التوقيتِ الصيفي وهناك حوالي نصفِ ساعةِ ليحلَّ ظلامُ المغيب، وأضفتُ قائلاً:
-يبدو أنك مهتمةٌ بالمسرح؟
-نعم.. قليلاً.
-هل عملُكِ له صلةٌ بالمسرح والثقافة أم له..
قاطعتني قائلةً:
-على فنجان القهوة نتحدث أليس أفضل؟
-نعم أفضل.. هي دعوةٌ مني إذنْ لنتناولَ فنجاناً من القهوة في المقهى القريب من هنا.
مشينا ببطءٍ المسافةَ القصيرةَ بين مسرحِ القباني ومقهى السفراء في هذا المساء الربيعي، كنتُ خلالها أتأمَّلُ المرأةَ التي أرافقها، تبدو بلباسِها الشتويِّ الثقيل، وقبعتِها وقامتِها المربعة كأنها خارجةٌ للتو من عرضٍ مسرحيٍّ عن الساحرةِ الشريرةِ التي كانتْ ترويها لنا الجداتُ في أمسياتِ الشتاء، والتي تمتطي صهوة مكنستها متنقلةً من مكانٍ لآخر. لوهلةٍ حاولتُ التدقيقَ إذا ما كانت تخفي مكنستَها بين طياتِ ملابسِها الكثيفةِ والثقيلة. سخِرتُ من نفسي على هذه الفكرة وتابعتُ السيرَ معها ينتابني شعورٌ بالخيبة. ظننتُها في عتمةِ الصالةِ صبيةً جميلةً، وأن الفرصة السعيدةَ قد جاءت بمبادرةٍ منها للحديث، ولا بأسَ بصحبةِ أنثى جميلةٍ بعدَ عرضٍ مسرحيٍّ جميلٍ، أيْ أنَّ هناك جانباً ثقافياً مشتركاً يجمعُ بين الشخصين، ولكنْ ها أنا الآن برفقةِ الساحرةِ الشمطاءِ العجوز ولا مجالَ للهرب، هي دعتْ نفسَها لفنجانِ قهوة، وأنا استجبتُ للدعوةِ كالأبله.. حسناً هي فرصةٌ لجلسةٍ يتيمةٍ مع هذا الكائن الذي يسير بجانبي ولن تُعادَ، سأحاولُ التغلُّبَ على شعورِ الخيبة في نفسي، وسأبذلُ جهدي كي أبدوَ طبيعياً.
**
انتقينا طاولةً تطل على شارع /29/ أيار وساحة يوسف العظمة (ساحة المحافظة) في آخر المقهى. جاء النادلُ، طلبتُ لي كأساً من الشاي وسألتها عن قهوتها حلوة.. وسط.. سادة، أجابت: لا لا… أريد كأسَ عصير. ذهب النادلُ لإحضار الطلب، أما أنا فقلتُ لنفسي ممتعضاً: بدأنا.. يبدو أن الخديعة ستكتمل، وجَّهتُ كلامي لها:
-حسناً الآن جلسنا على عصير وشاي (مُلمِّحاً إلى تغييرِ طلبِها من قهوة إلى عصير وهو أغلى سعراً) تفضَّلي حدِّثيني عنك.
-هل يمكن أن أطلبَ أركيلة؟
-طبعاً يمكن. طلبتُ لها أركيلة، سألتني:
-وأنت؟ ألن تطلبَ لنفسِك أخرى؟ أجبتُ بهدوءٍ قاطعٍ وحاسمٍ:
-لا دخان ولا أركيلة… شاي فقط. وكُـلِّـي آذانٌ صاغيةٌ واعيةٌ لسماعِكِ.
كانت تتحدَّث وملامحُ وجهها تضيع بين ظلالِ قبعتها الشتوية الثقيلة التي تلقيها على بشرتِها أضواءُ المقهى وما تناهى إلينا من أضواءِ الشارعِ الخارجي، ونفثاتِ دخانِ الأركيلة الكثيفة، أما صوتُها فكان هادئاً متقطعاً يعكسُ شخصيةً بائسةً مترددة وغيرَ متماسكةٍ. عرفتُ من حديثها أنها امرأةٌ في الخامسة والأربعين من عمرها درستْ في معهدِ طبِّ الأسنان ولم تُكمِلْ، تحوَّلتْ لدراسة التجارة والاقتصاد، أيضاً لم تتخرَّج، جرَّبت العملَ في عدة وظائف في القطاع الخاص، لكنها لم تستمر، وهي الآن بلا عمل، تعيش مع أمِّها العجوز وأختٍ أصغرَ منها موظفة، وتعاني وحدةً قاتلةً.
كما كان وجهُها يضيعُ خلفَ نفثاتِ الدخان وظلالِ القبعة، كذلك كان صوتُها يتقاطع في أذنّيَّ مع صوتِ الممثل الوحيد وهو يصرخ من البؤس والفقر والوحدة والألم في العرضِ المسرحي الذي خرجنا منه للتوِّ.
تأملتُ وجهَ جليستي وقد خَطَّتْ عليه السنون أولى علاماتِ الشيخوخة، حيث بدأت بَشرتُها بالترهُّلِ، والتجاعيدُ الناعمة تتمدّدُ هالةً حولَ العينين. حدَّثتُها عن نفسي قليلاً بناءً على طلبها، وحتى تكونَ جلسةُ الاعترافِ والبوحِ -هكذا أسميتها في قرارة نفسي – متوازنةً، وكي لا تشعرَ أنني غيرُ راغبٍ بمجالستِها، سألتني بشيءٍ من الرجاءِ المتملِّصِ من خجلٍ مزمنٍ تشعر الآنَ أنها دفعتْ ثمنَه غالياً:
-هل يوجد بين أصدقائك عريسٌ يناسبني؟
تأمَّلتُها ملياً، فكَّرتُ بسؤالها كثيراً، تُرى كَمْ فيهِ من البؤسِ والألم واليأسِ والجرأةِ أيضاً؟! لكنها جرأةٌ متأخرةٌ كثيراً.. لا قيمةَ لها، هي جرأةُ مَنْ خَرَجَ من حلبةِ الصراعِ والتنافس وصار وحيداً حيث لا حاجةَ للجرأة، أجبتُها:
-للأسف لا يوجد.. لكنْ لا تخلو الدنيا من أن تجدي شخصاً يناسِبكِ. قالتْ بإحباط:
-هل تظنُّ ذلك؟ هل يمكن أن أجدَ رجلاً بعد هذا العمر؟ إنني وحيدة.. وحيدة جداً، أريد شخصاً أتحدَّثُ إليه.. صديقاً.. رفيقاً.. كائناً ما يكلمني، لقد سئمتُ هذه الحياة. قلتُ لها مواسياً وسائلاً:
-ألم تجدي صديقاً أو صديقة تترافقان سويةً في الجلسات، ترتادان المسرحَ معاً، تجلسان في المقاهي..
-أبداً. كانت لي صديقة وحيدة تعرَّفتُ إليها أثناء الدراسة وبقينا معاً حتى سنواتٍ قريبة.. مع بداية الأزمة انقطعتْ علاقتُنا، الآن لا أعرفُ عنها شيئاً.. سافرتْ… بقيتْ.. ماتتْ.. لا أدري، وصرتُ وحيدةً كما تَرى.
إذنْ الوحدةُ هي التي دفعَتْها لفتحِ حديثٍ معي في قاعةِ المسرح المظلمة والصامتة إلا من صُراخِ الممثلِ وهذيانِه، الوحدةُ أيضاً هي من دفعني بعدَ سؤالين منها لأنْ أغيِّرَ الكرسيَّ الذي أجلسُ عليه أمامها، وأختارَ كرسياً آخرَ قربها، أمَلاً بصديقةٍ جميلةٍ تبدِّدُ وحشة وحدتي، الوحدةُ هي التي جعلتْ الممثلَ الوحيدَ في العرضِ المسرحي يصرخُ بصوتٍ مدوٍّ في نهايةِ العرض: «أنا ذئب»، ولكنَّ صرختَه لا قيمةَ لها، كجرأةِ هذه العانسِ الوحيدة، جاءت متأخرةً جداً.
نظرتُ إلى ساعتي، قاربتْ الثامنة، قلتُ لها:
-لقد تأخرتُ يجبُ أن أذهب.
كانت نظراتُها ترجوني أن أبقى أطولَ مدةٍ ممكنةٍ، شعرتُ بذلك فأضفتُ:
-إذا أحببتِ أن تبقي في المقهى وتُكملي جلستكِ ونفسَ الأركيلة فلا مشكلة، أنا سأحاسبُ النادل. أجابت بتلكؤٍ:
-لا.. لا.. نخرج معاً.
خرجنا معاً، حاولتْ إقناعي بلقاءٍ آخرَ نتحدَّثُ فيه، استجبتُ لها شفقةً، اتفقنا أن نلتقيَ الأسبوعَ القادم بالتوقيت والمكان نفسه، هي لا تحمل موبايل ولا تملك هاتفاً في المنزل… لا شيءَ للتواصل، وعدتني أنها ستشتري موبايل، توادعنا ونظراتُ الاستمهالِ في عينيها، اتخذتُ طريق بورسعيد ومنه إلى جسر الرئيس حيثُ ركنتُ سيارتي. غِبتُ عن أنظارها بين ظلالِ المارةِ وظلمةِ الشارع، ألقيتُ عليها نظرة عن بُعد، لمحتُها من الرصيفِ المقابل بقامتِها المربعة، وقبعتِها الأسطورية، ونظراتِها الضائعة التي تعكسُ حَيرةً ووحدةً مؤلمةً، وكأنها أضاعت الاتجاهات في ساحةِ المحافظة حيث تفرعاتُ الشوارعِ تُحيِّرُ الغريبَ والوحيد.
التاريخ: الثلاثاء28-4-2020
رقم العدد : 996