الملحق الثقافي:
تتميز فلسفة الفن، عن النقد الفني الذي يهتم بتحليل وتقييم أعمال فنية معينة. قد يكون النشاط النقدي تاريخياً في المقام الأول، كما هو الحال عند إلقاء محاضرة حول المسرح من أجل شرح بعض الأدوات المستخدمة في مسرحيات شكسبير. قد يكون النشاط النقدي تحليلياً في المقام الأول، كما هو الحال عندما يتم فصل مقطع معين من الشعر إلى عناصره ويتم شرح معناها أو استيرادها فيما يتعلق بالمقاطع الأخرى والقصائد الأخرى. أو قد يكون تقييمياً في المقام الأول، كما هو الحال عند تقديم أسباب من أجل القول إن العمل الفني المعني جيد أو سيئ، أو أفضل أو أسوأ من عمل آخر.
تمثل الشخصية الروائية عنصراً لا يُستغنى عنه في التخييل، وتشكل نقطة ارتكاز أساسية بالنسبة إلى القارئ، ومكان توظيف انفعالي وأيديولوجي أساسي؛ فالحبكة نفسها لا توجد إلا عبر الشخصية ومن أجلها، وهي محرك العمل والضامنة، في الوقت نفسه، لتماسكه. فالشخصية الروائية، في الحقيقة، مخلوق في منتهى التناقض: فهي غائبة عن حياتنا الواقعية، و»معامل وجودها» أدنى بكثير من معامل وجود شخصية حقيقية يمكن أن نخالطها في حياتنا. لكنها تمتلك، في الوقت نفسه، كثافة وجودية أعلى من كثافة وجود أي كائن يمكن أن نصادقه.
وقد شكك الروائيون الجدد بهذه المكانة المركزية للشخصية الروائية، وكالوا لها الكثير من الهجمات العنيفة التي نالت من أهميتها وموقعها في العمل الروائي، حتى إنهم أعلنوا موتها في العديد من المرات، غير أنها استمرت في فرض نفسها حتى اليوم، وأثبتت أن الأزمة التي ألمت بها لم تقوض حضورها، بل، على العكس، أعادت الحيوية إليها.
وكتاب (الشخصية في الرواية)، تأليف: لور هيلم، وترجمة: د. غسان السيد، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، يتناول بين دفتيه الحديث عن الشخصية الروائية، ويفند المترجم في مقدمته الأهمية التي ينطوي تحتها هذا الكتاب بفصوله الستة، إذ يقول: «تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه دراسة تطبيقية على الشخصية الروائية لباحثة في مركز البحوث، حاصلة على دكتوراه في الأدب الفرنسي. تستفيد الباحثة من المناهج النقدية الحديثة في دراستها للشخصية الروائية، وقد تناولت الشخصية من جوانبها المختلفة كونها المحرك الأساسي للكتابة الروائية كما يظهر في عنوان الفصل الأول الذي تستخدم فيه الباحثة أنموذج غريماس العاملي للتعامل مع الجوانب المختلفة للشخصية، ثم تتوقف الباحثة في الفصول التالية عند علاقة الشخصية بالزمن واللغة والشخصيات الأخرى. لتختتم الكتاب بفصل مهم قلما نتطرق إلى موضوعه في دراساتنا، وهو أزمة الشخصية الروائية».
الشخصية محرك الرواية
الشخصيات ضرورية لتطور الرواية، فمن دونها، لا وجود لفعل حقيقي، ولا يمكن لأي تغيّر في الموقف أن يحصل. والشخصيات تشغل، في المقام الأول، وظيفة ديناميكية في النص الروائي تتلخص في جعل الفعل يتقدم عبر منحه تماسكاً قوياً.
وقد حاول لغويون ومنظرو سرد في القرن العشرين، تقعيد دراسة الأدوار التي تقوم بها الشخصيات عبر إظهار أنه يوجد ثوابت في الأفعال التي تقوم بها بعيداً عن خصوصية كل عمل سردي. كما استعاد بعض اللغويين مخطط بروب، المعقّد نسبياً، وبسّطوه، ولا سيما الجيرداس جوليان غريماس الذي استلهم من بروب كي يقدم صيغة الأدوار العاملية في مجموع النصوص السردية. إذ ميّز في كتابه (السيميائية البنيوية – 1966) ستة أدوار رئيسية تتطابق مع ست وظائف للشخصيات. وقدم غريماس كذلك، من وجهة نظره، فعل الشخصية الروائية بوصفه تطويراً لبرنامج يتضمن أربع مراحل أساسية، هي: تحريك – جدارة أو كفاءة – إنجاز – وأخيراً الجزاء.
ويمكن الإشارة إلى أن المنظور الذي تبناه غريماس يقترب من فكرة قديمة جداً، عرضها أرسطو في فن الشعر بخصوص المحاكاة. إذ أشار أرسطو في هذا النص المؤسِّس، إلى أن كل تمثيل محاكاتي هو، قبل كل شيء، تمثيل للفعل، وأن الجانب الأكثر أهمية للشخصية يقع في جانب الفعل الذي تقوم به، والذي يجعلها تواجه قدرها، وأنه ليس للعناصر الأكثر ذاتية، مثل الطبع ودخيلة الشخصية، إلا مكانة ضعيفة جداً.
وعليه يمكن القول إن سيميائية غريماس السردية تستعيد فكرة أن الشخصية تتحدد بصورة أساسية عبر فعلها من أجل تقديم قواعد نحو للسرد يمثل مزيّة لنوع من الموضوعية. وأن المخطط العاملي له يمكن أن يساعدنا في تقعيد دراسة الفعل للشخصية الروائية، إلا أنه، حتى وإن استُكمِل بأخذ نماذج أكثر ذاتية في الحسبان، مثل تحليل الإرادة والقدرة والمعرفة، فإنه لا يسمح بإدراك تعقيد الشخصية الروائية كله.
أزمة الشخصية الروائية
وضع عدد من المؤلفين الشخصية الروائية موضع تساؤل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد أن عُدّت، حيناً طويلاً، مفتاح عقدة الرواية. وفيما بعد حُرمت الشخصية، بالتدريج، من خصوصيتها التقليدية، ومن طاقتها، وحتى من جوهرها، وباتت تمثل بالنسبة إلى الروائيين الجدد «مفهوماً تجاوزه الزمن» حان الوقت للتخلص منه.
إن «بول فاليري» الذي ينظر إلى الجنس الروائي على أنه مكان لعدم الصدق والخدعة المجانية، يؤكد في ندوة أقيمت عام ١٩٣٣: «بأن هذا الفن (الذي يقال إنه إنساني) هو، إذاً، كاذب». أما آلان روب غرييه الذي أصبح زعيماً لجماعة الروائيين الجدد، فإنه يدعو للقضاء الكامل على الشخصية الروائية التي يراها: «مومياء حالياً، لكنها لا تزال تجلس على العرش نفسه – على الرغم من أنه زائف – وسط القيم التي يجهلها النقد التقليدي…».
وهكذا تحولت الشخصيات، التي بتنا نصادفها في روايات أعلام الرواية الجديدة أمثال ساروت، وبيكيت، وسيمون وسواهم، إلى أشياء؛ محرومة غالباً من الاسم، ومحرومة من هوية ثابتة تمثلها. وغدت شخصيات هذا النوع من الروايات لا تمثل مادة لأي وصف، فهي لا تندرج ضمن أي وسط اجتماعي أو عائلي، ولا تفعل الشيء الكثير، بل إنها لا تفعل شيئاً. وبات من الصعوبة الإمساك بها ضمن فردانيتها ومنحها جسداً، فهي، في النهاية لا تلفت نظر القارئ بما هي عليه بل غالباً بسبب ما تتعرض له، أو بسبب ما تراه.
وشكّل هذا التآكل الكامل للشخصية، المترافق بغياب الحبكة والمرجعية لإطار تاريخي محدد، تحدياً حقيقياً أمام القارئ الذي وجد نفسه يواجه سيلاً من الكلام، أو تراكماً من المفهومات الوصفية الخاصة بموضوعات معينة مع حرمانه من معالمه الدالة التقليدية، الأمر الذي سبب نفور القارئ من هذا النوع من الأعمال التي لا تسمح له بأي استثمار عاطفي، كما أشار الناقد والروائي بيير هنري سيمون.
فالرواية الجديدة، إذاً، أثارت اهتمام نقد محدود، ولم تلق حظوة الجمهور، فقد اتهمت أنها مملة، وجافة، ولاإنسانية بسبب تقديسها للمادة، مما أسهم في عودة الكثير من الروائيين المرتبطين بهذه الحركة الجديدة إلى مفهوم أكثر تقليدية في الكتابة الروائية، وعادت الشخصية الروائية، التي تتعرض للتدمير منذ وقت طويل، للظهور ثانية تحت أعيننا، وغدت أزمتها العلامة على حيويتها، وشرط هذه الحيوية مع توالي التغيرات في العالم.
ومن الجدير ذكره ختاماً بأن هذا الكتاب يقع في 215 صفحة من القطع الكبير.
التاريخ: الثلاثاء18-8-2020
رقم العدد :1009