الثورة أو لاين – رشا سلوم:
يقولون عنه إنه الشاعر الأعمى الذي أبصر بما لا يراه المبصرون، كان زرقاء اليمامة اليمنية، الشاعر الذي ترك شعلة الشعر تبكي وراءه، مرت ذكرى وفاته منذ أيام، وكم هو جميل أن تعمد ذواكر المبدعين إلى استرجاع ما كان يوماً ما، مع الشعراء الكبار، ومن هؤلاء البردوني، الذي نذر شعره لصيحة العروبة ويقظتها، من ذاكرة معد الجبوري، ومن أروع المواقف التي تعبر عن أصالة الموهبة نقتطف ما قاله الجبوري، عن حادثة هزت العالم الإبداعي حينها، وتركت ألف سؤال في العمق والمعنى، يكتب الجبوري في صحيفة المثقف عن الحادثة تلك قائلا:
(خلال زيارة وفد الأدباء المشاركين في مهرجان أبي تمام، للجامع النوري في الموصل، المعروف شعبياً باسم الجامع الكبير، ظهيرة يوم (11 كانون الأول 1971) وقفنا، نحن أدباء الموصل الشباب آنذاك، أمام رجلٍ ضرير كان أحد ضيوف المهرجان، لنتعرف عليه، إذ لم يتسنَّ لنا ذلك عند استقبال الضيوف في فندق الإدارة المحلية، فالضيف الضرير أنزِلَ في فندق المحطة.
كانت آثار الجدري واضحةً على وجهه، وهو يرتدي دشداشة قصيرة ومعطفاً قديماً، ويقوده شخص يهمس في أذنه عما يشاهده وعن المتواجدين قربه.. قلنا له بودنا أن نتعرف عليك وعرَّفناه بأنفسنا، فاهتز فرحاً وصافحنا بود، قائلاً بتواضع وبصوت واثق: أنا عبد الله البردوني شاعر من اليمن، وأخذ يتحدث عن الشعر، والتيارات الجديدة بشكل خاص، ذاكراً العديد من الأسماء الشعرية العربية البارزة، مبدياً آراء خاصة بها تدل على متابعة دقيقة للمشهد الثقافي العربي، ووعي عالٍ بصراع الأجيال والاتجاهات، معرباً عن أمله بالتجاوز الشعري والإضافة والتغيير عبر إبداع الجيل الجديد من الشباب في الأنماط الشعرية كلها.
وتحدث بما يسمح به لقاؤنا عن التراث الشعري والمخطوطات وعن الموصل وتاريخها وأعلامها.
كبر الرجل في أعيننا ونحن نصغي بمحبة إلى آرائه الفريدة، وإلى نكاته وضحكاته المجلجلة أيضاً، وأيقنّا أنَّ ما يخفيه أكبر مما أبداه، خاصة بعد أن علِمْنا منه أنه سيُلقي قصيدة جديدة في المهرجان.
في الأمسية الشعرية الأولى التي أقيمت على قاعة الإدارة المحلية (الربيع) تلا مقدم الحفل اسمَ الشاعر عبد الله البردوني ودعاه للإلقاء، فنهض وسار بهدوء وهو يمسك بالرجل الذي يقوده، وصعد إلى المنبر وهو يمسح أنفَه بِكُمِّ معطفِه، ما أثار بعضاً من اللغط والدهشة في القاعة التي كانت تغصُّ بجمهور حساس محب للشعر.. وتنحنحَ البردوني ثم بدأ يقرأ قصيدته (أبو تمام وعروبة اليوم) بصوت أخَّاذ جميل، وبأداء أبقى على نطق (القاف) كما تُنطق في شمال اليمن:
ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ
وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ
أدهى من الجهل ، عِلْمٌ يطمئنُّ إلى
أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلم واغتصَبوا
قالوا همُ البَشَرُ الأرقَى، وما أكلوا
شيئاً ، كما أكلوا الإنسانَ أو شربوا
عندها ضجت القاعة.. إذ لم يكن من المتوقع أنَّ رجلاً كفيفاً بمثل تلك الهيئة يمكن أن يُفاجئ القاعة بمثل هذه الأبيات.
وتصاعد البردوني في إلقائه حتى شدَّ الحاضرين من أدباء وشعراء، وجمهور على مستوى عالٍ من الاستجابة، إلى قصيدته، وهم يستعيدون العديد من أبياتها، مثل:
تســـــــــعون ألفـــــــــــــاً لعمّوريــــــــــــــة اتَّقَدوا
وللمنجم قالـوا : إننــــــــــا الشُّــــــهُبُ
قيل انتظارِ قطافِ الكرم ما انتظروا
نُضْجَ العناقيـد ، لكنْ قبلَها التهبوا
واليوم تسعون مليوناً ، وما بلغوا
نضجاً ، وقد نضجَ الزيتونُ والعِنَبُ
ومثل هذين البيتين:
ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي؟
مليحةٌ عاشـــــــــقاها: السِّـلُّ والجرَبُ
ماتتْ بصندوقِ (وضَّاحٍ) بلا ثمنٍ
ولم يمُتْ في حشاها العشقُ والطرَبُ
أو: ماذا أتعجبُ من شيبي على صِغَرٍ
إني ولدتُ عجوزا ، كيفَ تعتَجِبُ ؟
وعندما نزل عن المنبر ظل التصفيق يتوالى، ثم التفَّ حوله العشرات، في القاعة وفي صالة فندق الإدارة المحلية، وظل يستقبل العشرات من أبناء المدينة المعجبين، وهم يُشيدون بقصيدته، لأنه كان بحق نجمَ المهرجان.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه لم يكن في المدينة أيُّ بثٍّ تلفزيوني سوى محطة تلفزيون الموصل التي كانت تنقل بالأسود والأبيض وقائع الأمسية نقلاً حيّاً مباشراً على الهواء إلى جمهور الموصل، فدخل المهرجان إلى البيوت والمقاهي والمحال العامة، وتابعه الناس بشغَفٍ واهتمام.
وبهذه القصيدة التي لم
تزل حتى اليوم عالقةً في الأذهان، فتحَ الشاعر عبد الله البردوني أولَ باب لشهرته، في المحافل الأدبية العربية وبين قراء الشعر وعشاقه.
بعد سنين التقيتُ البردوني في مهرجان المربد الخامس بالبصرة يوم الخامس من تشرين الثاني عام 1983 وكنتُ أحد المشاركين فيه، ولا تزال في الذاكرة أبياتٌ من قصيدتين ألقاهما في الجلسة الشعرية الأولى للمهرجان، يستهِلُّ الأولى التي اتسمت بجرأتها، بقوله:
لنـا بطونٌ ، ولديكُمْ بنوكْ هذي المآسـي نَصبَتكُمْ ملوكْ
لنـا شروطٌ ، ولكُمْ شرطةٌ تخطُّ بالكرباج (حُسْنَ السُّلوكْ)
أنتمْ تحوكونَ الذي لا نَرى وتسـتشـــــــــفُّونَ الذي لا نحـوكْ
ويقول في الثانية المتسمة بغورها في أعماق الذات:
كان يبكي، وليس يدري لماذا ويغنــــي ، ولا يُحــــسُّ التذاذا
لا يعي مَنْ دعا ولا مَن يُلبِّي كان في صوتِه يُلاقي مَلاذا
وما أتذكّره من طرائفِ ذلك المهرجان، أن البردوني لم يتخلَّ عن معطفه وهو في البصرة، مع أن الجوَّ فيها، في مطلع شهر تشرين الثاني لم يكن بارداً إلى حدٍّ يستدعي ارتداء المعاطف، كما أن الشاعر العراقي نعمان ماهر الكنعاني، لم يتخلَّ هو الآخَر عن حَملِ العصا، مع أنه كان قويَّ البنية منتصب القامة لا يحتاج أن يتوكأ عليها، ما دعا أحد الصحفيين الظرفاء أن ينشر في جريدة المهرجان تعليقاً ظريفاً حول معطف البردوني وعصا الكنعاني، يقول عن المعطف (لم نعرف إلى الآن من كان وراء إقناع البردوني بأن الشتاء قد نزل عندنا.. لكننا نعرف أن معطفه الذي يحمله حيثما سار، أصبح من أبرز معالم المربد)، وعن العصا يقول (أضيفت عصا الشاعر نعمان ماهر الكنعاني لمأثورات المربد الخامس.. سألناه: أهي علامة الكِبَر؟ فقال: بل هو تقليد مربدي).