الواضح والغامض

الثورة أون لاين – ناظم مهنا:

من القضايا التي تُثيرها آليّة الاستجابة للقراءة ، قضيّة الوضوح والغموض في النصوص والمعاني والمضامين، ولا سيّما في الشعر. والجدل في هذين الحدّين قديمٌ، وقد تشعّب وتحوّل من جدلٍ حول الوضوح والغموض في الشعر إلى جدلٍ فلسفيٍّ يتعلّق بالمعنى – وكلا الحدين جوهره المعنى ببعدَيْه الوضعي والميتافيزيقي – ويتعلق بالتَّفسير والتأويل ، والظاهر والباطن ، والسطح والعمق ، والحضور والغياب ، ويتعلّق بكثيرٍ غيرها من الثنائيات .
في تراثنا جمع الجاحظ «البيان والتبيين» في كتاب واحد، والعرب يميلون إلى الإبانة والإفصاح ، وإلى الوضوح ، والقصص كثيرة عن الموقف من غموض شعر أبي تمام والمولدين في الشعر العربي ! وأعتقد أنه دخل الغموض ثقافتنا وشعرنا مع دخول المؤثرات الخارجية، ولا سيما الفلسفيّة منها ، على الرغم من الجدل الباذخ بين علماء الكلام حول التَّفسير والتأويل في النص القرآني ، والمدارس التي تعددت حول ذلك ، وما ترتب عليها من مذاهب فقهية وطرائق دينية ، حتى وجد مَنْ يقدِّس السر الغامض الذي لا يدرك إلا من خاصة الخاصة من ذوي الألباب العرفانية المكشوف عنها الغطاء ، على حدِّ قول الصوفيين وأتباع مدرسة التأويل.
وهذا الجدل القديم دفع المفكرَ الراحل محمد عابد الجابري في كتابه «بنية العقل العربي» إلى تقسيم العقل العربي إلى دوائر ثلاث ، هي: العقل البياني ، والعقل العرفاني ، والعقل البرهاني ، الأولى والثانية ليستا متباعدتين دائماً، بل تتقاربان لدى الصوفيين. وكان أستاذ الجابري سامي علي النشار قد سبقه إلى إدراج العقل العربي في خمس دوائر.
الجدل في الواضح والغامض ، استغرق النقاد والشعراء والفلاسفة المعاصرين بأشكال متعددة. رولان بارت يرى عناقاً بين الطرفين ، يقول : «المعنى الواضح، هو المعنى المقصود والمقنّن والمحوّل إلى شفرة ثابتة. والمعنى الغامض ، هو المفتوح على نهائية اللغة».
وهو يرى أنّ ذات الشاعر دائماً ذات كثيفة ، مثل عزرا باوند الذي يرى الشعر لغة مشحونة بالمعنى. والمتأمِّل في كتابات بارت يجد إشارات وإيحاءات كثيرة حول الواضح والغامض حينما يتحدَّث عن المعنى ، فيرى أنَّ الأدب لغة وليس وسيلةً لنقل المضامين والتمثّلات.
اللغة في استخدامها الإبداعي التخيلي تتوزّع بين حالي الوضوح والغموض ، وأحياناً يكونان معاً في الحال ذاته وفي الشخص الواحد !
يقول باسكال : «ليس هناك مَنْ هو أقل شبهاً مني سوى نفسي ، فأنا أخضع لمزاجين أساسيين يتغير كلٌّ منهما داخل نفسي». كما أنَّ الأمرَ في الحالين جماليّ يروم الدهشة ، ولكلٍّ منهما جاذبيته ، يشبهان في وجه من الوجوه حالتَي الضوء والعتمة ، الشمس والقمر ، ولنتجاوز هنا الثنائية (المانوية) والتعددية أيضاً. فإذا كان الحداثيون ، ومنهم إليوت يرون أن الشِّعر يجب أن يستجيب للحواس ، لكن الغموض من أهم الخصائص التي تميز الشعر الحديث. أما الرمزيون ، ومنهم فرلين و مالارميه ويتطابق معهم بول فاليري ، يرون في الغموض تحريضاً على الفَهْم والتأمّل، وارتقاء بالشعر عن اليومي ليواجه العالم والوجود. إلا أن نقاد ما بعد الحداثة لا يولون السر الصوفي والميتافيزيقي قيمةً تذكر في الفكر وفي الشعر أيضاً، ولا حتى للمعنى ، ويميلون إلى القطع مع المرجعيات ، ومحو التواصل مع كل ما هو سابق ، فما كلماتٌ مثل: السِّر، والمعنى، والعميق… سوى تهويمات جوفاء ، وليس من مدلول للعمق سوى البعد الفيزيائي والبنيوية تحذف من حسابها مسألة المعنى التي يثيرها التأمّل الإنساني. وتلافياً للتناقض استعاض ما بعد الحداثيين عن الوضوح والغموض بمعادل آخر أكثر غموضاً هو «الحضور والغياب»، وهو يعني لدى مفسريهم أنَّ في الذات جانباً خفياً وسرياً لا يحضر في الوعي ولا يمكن للفكر أن يتمثّله ويعكسه فيبقى غائباً. ويمكن استعراض كثيرٍ من الأفكار التي أُثيرت حول الواضح والغامض ، وكلٌّ منهما له أنصاره ، وإذا كان الغامض والسِّريّ والمعنى الخفي يجذب أحياناً بعض البشر ، والسعادة تكمن في بلوغ المعرفة العصية ، فإنّ بعضهم أيضاً يرى أن الإنسان السعيد هو الإنسان الخالي من المحمولات ومن الذَّاكرة ، والفنُّ هو رفضٌ دائم للمعنى ، وهذا هو شأن الفِكر البشري : صراعٌ دائم لا يستقرّ

آخر الأخبار
جودة طبيعية من دون غش.. منتجات الريف تصل المدن لدعم الصناعة السورية.. صفر رسوم للمواد الأولية أرخبيل طرطوس.. وجهات سياحية تنتظر الاهتمام والاستثمار مركزان جديدان لخدمة المواطن في نوى وبصرى درعا.. تنظيم 14 ضبطاً تموينياً اللاذقية: تشكيل غرفة عمليات مشتركة للسيطرة على حريق ربيعة الشعار يبحث تحديات غرفة تجارة وصناعة إدلب شراكة لا إدارة تقليدية.. "الإسكان العسكرية" تتغير! حمص.. 166 عملية في مستشفى العيون الجراحي أسواق حلب.. معاناة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة مهارات التواصل.. بين التعلم والأخلاق "تربية حلب": 42 ألف طالب وطالبة في انطلاق تصفيات "تحدي القراءة العربية" درعا.. رؤى فنية لتحسين البنية التحتية للكهرباء طرطوس.. الاطلاع على واقع مياه الشرب بمدينة بانياس وريفها "الصحة": دعم الولادات الطبيعية والحد من العمليات القيصرية المستشار الألماني الجديد يحذر ترامب من التدخل في سياسة بلاده الشرع: لقاءات باريس إيجابية وتميزت برغبة صادقة في تعزيز التعاون فريق "ملهم".. يزرعون الخير ليثمر محبة وفرحاً.. أبو شعر لـ"الثورة": نعمل بصمت والهدف تضميد الجراح وإح... "الصليب الأحمر": ملتزمون بمواصلة الدعم الإنساني ‏في ‏سوريا ‏ "جامعتنا أجمل" .. حملة نظافة في تجمع كليات درعا