ما من شعب في العالم يقدر نعمة الخبز كما السوريين، الذين كانوا أول من زرع وحصد، وأطعموا العالم قمحاً وخبزاً، ألم تكن درعا إهراءات روما (مخازن قمحها) حقيقة لا ريب فيها، ولكن للأسف أيضا ما من شعب في العالم أهدر الكثير من النعم، ولم يقدرها كما فعل ويفعل البعض منا، رغيف الخبز برحلته في الذاكرة مذ كنا صغاراً إلى اليوم والغد ببساطة مطلقة كنا في القرى نقول عنه (مصحف الحياة) وحين تريد الأمهات استحلاف الأبناء حول أمر ما: تحضر قطعة خبز (شدوق، يعني ملء الفم، أو قطعة مقدار الكف) ويطلب من الابن أن يقسم عليها.
يردد: “وحياة” هذه النعمة.. ولم يكن يكذب أبداً بقسمه مهما كانت النتائج التي تترتب على الأمر حتى لو كان الكذب منجاة له، لكنه لن يكذب، لأن النعمة التي يقسم بها سوف تكون دمه، ونسغ حياته ونبضه، وكيف له أن يسمح لدمه أن يكون ملوثا؟.
ومازال الأمر سارياً في الكثير من القرى والمناطق والبيئات السورية بكل جغرافيتنا المقدسة، ومازلنا ننحني لنلتقط أي نثرة خبز سقطت سهواً، أو عمداً، لنضعها بمكان عال بعيد عن أي مصدر تلوث، أليس هذا الوعي يدعونا لأن نسأل ونتساءل بمرارة: ما الذي تغير، وماذا جرى لنا، كيف يجرؤ أحد ما على تحويل النعمة إلى طاقة مهدورة، ألا يرى أنه يقتل إنساناً ليثرى هو، كيف يحول رغيف خبز معجونة بالطهر والكبرياء، محروسة بآلاف الشهداء لتكون علفاً، أو هدراً؟.
نعم، نحن أحيانا كثيرة، لانقدر النعمة “نرفسها” ولكننا حين تضيع نصبح جوقات جنون، نرى بأم العين، ما يهدر وكيف، وبالوقت نفسه: نعيش معاناة بل مرارة الحصول على رغيف الخبز اليوم، لا لأنه غير متوفر، أبداً، بل هو موجود، ولكن لسوء التوزيع وآليات إيصاله للمواطن، بكل بساطة: نحن شعب أدمن طعامه مع الخبز، بل في الكثير من الأحيان تكفيك خبزة مع حبة بندورة لتقول: اكتفيت، وهذا لم ولن يتغير بيوم وليلة، ولايمكنك أن تحدد لي كم رغيفاً أستهلك، لأنه ثقافة حياة منذ عشرة آلاف عام، وليس بضربة بطاقة يمكن أن تغيره، ثلاثة ايام علينا كأسرتين مؤلفتين من 6 أشخاص أن ننتظر المخبز معطلاً، معتمد الخبز بعد الثانية عشرة ليلاً وأبعد ليأتي.
أمس ولست من هواة السهر حتى الثانية فجراً أنتظرته، لم يأت، يعني أن علينا أن نبحث عن رغيف خبز لثلاثة أيام (أربعاء خميس جمعة) ولبعد منتصف ليل السبت، ربطتان لأسرتين؟.
ليست معاناة شخصية، بل شبه عامة، العمل بهذه الطريقة التي تشعرك كمواطن أنك لست إلا آلة بحث وانتظار، يجب أن تتغير، أن نبحث عن حلول تحفظ وتصون وقتنا وكرامتنا، هل يمكن لأي مسؤول من مرتبة مدير إلى… أن يقضي وقته كله في الطوابير كما نفعل، وفوق ذلك علينا أن نتدبر لقمة عيشنا؟.
ما بحوزة سورية من خير على الرغم من كل الحصار، يكفينا إذا ما أحسنا التدبير، الدولة لم تقصر بدعم كل مستلزمات الحياة، لكن ثمة تقصيراً مريعاً من قبل الكثيرين في الجهات التي تخطط وتنفذ، قد يكون عمداً، أو فساداً، او غير ذلك، ما أروع أن تدير الجهات المعنية مقدراتنا بعقلية سيدة الأسرة المدبرة، بكل بساطة: لا نشكو القلّة، إنما عدم إدارة مواردنا، وكم يصح قول أحدهم: غزارة في الإنتاج، وسوء في التوزيع، رغيفنا من دمنا، ونبضنا، وسنحرسه بكل ما تبقى فينا.
معا على الطريق – ديب علي حسن