الملحق الثقافي:نجلاء الخضراء:
لا تقتصر معرفة فلسطين على معرفة نضالها في هذا العصر، ولا تتم الصورة إلا بالاطّلاع على جذور حضارة هذا البلد الطيب منذ القدم. فالحاضر نتيجة الماضي، والمستقبل وليد الحاضر، والتاريخ حلقات مرتبطة، لذا كان إحياء التراث الشعبي والحفاظ على خصائصه الفنية وإظهار أصالته، شرط من شروط تخليد الحضارة العريقة، وهو مظهر لثقافة الشعب عبر التاريخ.
صوّر التراث الشعبي التاريخ المادي والمعنوي للحضارات منذ أقدم العصور، فالكثير من الحضارات قد ولّت، ولم يبقَ إلا تراثها كبصمة مميزة أعطت لتلك الحضارات شخصيتها ومنها استطعنا أن نستدل على عظمتها من خلال مواقعها القديمة ومبانيها الأثرية وقطعها الثمينة النادرة وأساطيرها وحكاياتها الشعبية وأناشيدها وأمثالها وفنونها ومعتقداتها وممارساتها في الأعياد والمناسبات.
ونظراً لما يواجهه الشعب الفلسطيني من التهويد والتهجير، فهو أحوج إلى تراث موحد ورموز مشتركة تحافظ على ترابطه ووحدته كشعب واحد متماسك أكثر من أي وقت مضى. هذا التراث الذي يربطه بجيرانه من الدول العربية والإسلامية ويتشابه معها، وهو جزء لا يتجزأ منها يكون معها وحدة متنوعة ملونة تماماً كلوحة فسيفسائية جميلة متكاملة، وهنا تكمن أهمية جمع التراث الشعبي الإسلامي العربي الفلسطيني وحمايته، لأن فقدانه وضياعه يعني فقدان الهوية وفقدان الملامح الفلسطينية المتوارثة.
يفسر المعجم الوسيط الهوية بحقيقة الشيء، ونجدها في المعجم الوجيز تعني الذات، كما تعرف الهوية بأنها حالة عقلية وجدانية متطورة تعبر عن محصلة انتماءات الإنسان التي تحدد ارتباطه وولاءه لحضارته وثقافته وبالتالي لأمته وشعبه.
ومن المصادر الأساسية للهوية: القومية والعرق والجنس والطبقة، ورغم أن الهوية تنسب إلى الأفراد، إلا أنها ترتبط بالمجموعات الاجتماعية التي ينتسب إليها الأفراد ويصنفون على ضوئها.
تشكلت الهوية الوطنية الفلسطينية نتيجة للظروف التاريخية التي مرت بها القضية الفلسطينية، منذ أن بدأ الوعي والنضال الوطني الفلسطيني يأخذ دوره في الحياة السياسية والاجتماعية للفلسطينيين، وكان ذلك منذ أن تنبه المثقفون الفلسطينيون إلى الخطر الصهيوني، في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين منذ الحكم العثماني، وأرسلوا رسالة احتجاج إلى الباب العالي سنة 1881.
ومع ظهور الاستعمار الأوروبي عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وضعت حدود جغرافية سياسية لبلاد الشام من خلال اتفاقية سايكس بيكو، وُقسمت سوريا الكبرى على دول الحلفاء، ووقعت كل من فلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني، أما سوريا ولبنان فوقعتا تحت الانتداب الفرنسي.
ينظر إلى الهوية الوطنية على أنها مجموعة السمات والخصائص المشتركة التي تميز أمة أو مجتمعاً أو وطناً معيناً عن غيره، يعتز بها وتشكل جوهر وجوده وشخصيته المتميزة. إن كل مجموعة إنسانية يوجد بين أفرادها صفات مشتركة تميزهم عن غيرهم من المجتمعات وتشكل لديهم هويتهم وشخصيتهم الخاصة، وبالنسبة إلى أفراد الشعب الفلسطيني، فإنهم ينتمون إلى الأمة العربية ويشتركون معهم بالدين واللغة والتاريخ والعادات والتقاليد.
الهوية والثقافة
لمعرفة العلاقة بين الهوية والثقافة، لا بد من تعريف الثقافة: فهي كلما أنتجه الإنسان، من فكر وعلم وفن وأدب ونظم وعادات وتقاليد وقيم ومثل وأدوات ووسائل وأساليب.
الثقافة الشعبية هي التي تنتقل بين الأفراد والأجيال بشكل عفوي عن طريق المشافهة والتقليد والملاحظة، وتعبر عن مشاعر وعواطف وحاجات عامة الشعب وليس النخبة، وتنتقل هذه الثقافة من خلال رموز التراث الشعبي المادية الملموسة مثل الملابس الشعبية والأكلات الشعبية.
تعد الثقافة الشعبية العنصر الأهم في تكوين الهوية الجماعية للشعب أو للأمة، كذلك هي الأقدر على الحفاظ على هذه الهوية وفي ضمان استمراريتها وتعزيزها، وذلك لأن الثقافة والتراث الشعبي ينتشران بين عامة الشعب بشكل أوسع، وهما أقدر على استثارة الهمم، والتأثير في الواقع الذي تعيشه الجماعات.
والهوية الثقافية لأي شعب هي السمات العامة التي يمتاز بها المجتمع، وهي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات.
علاقة الهوية بالتراث
إن العلاقة قوية بين الهوية والتراث، فالتراث هو تعبير عن هوية الأمة وخصوصيتها، كما أن التراث يساعد في بلورة الهوية والأهداف الوطنية من خلال تجميع أبناء الشعب الواحد حول تلك الأهداف وحول القيادة الوطنية.
إن التراث الشعبي هو المكون الأساسي لهوية الشعوب والمعبر عن همومهم ومعاناتهم وطموحاتهم، ويمثل عامل ترابط اجتماعي بين أبناء الوطن الواحد من مختلف الطبقات، ويزداد التمسك بهذا التراث عند الشعور بالخطر على الكيان وعلى الهوية الوطنية. ويشكل التراث بما يحتويه من عناصر ثقافية وحضارية مثل الحكايات والفنون والأشغال الحرفية والحكايات والقصص الشعبية، الكثير من الرموز التي قد يستخدمها السياسيون لتعبئة الجماهير لأغراض سياسية من أجل تعزيز الوعي الوطني أو مقاومة الخطر الأجنبي.
وعلى هذا الأساس فإن التراث يشكل صراعاً إيديولوجياً بين الفئات المتصارعة على الحاضر من أجل السيطرة على مشاريع المستقبل، وأن هذه الفئات تتجه للماضي لتشحن منه ما يعتقد أنه السيطرة على الحاضر. إن للتراث الشعبي الفلسطيني دوراً هاماً وفعالاً في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، ولقد أخذ الاهتمام بالحفاظ على التراث يظهر بصورة واضحة ومنظمة بعد حرب 1967 عندها شعر الفلسطينيون بأهمية المحافظة على الهوية المهددة بالنفي والضياع، فقاموا من داخل فلسطين وخارجها، بدور فعال في رعاية التراث وحمايته من خطر الطمس والتزوير على يد «الاحتلال الإسرائيلي»، فكانت النشاطات الجماهيرية الواسعة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي لرعاية التراث، وإقامة الفرق والمعارض والمتاحف والمهرجانات داخل فلسطين وفي مختلف دول العالم، وذلك من أجل نشر التراث والتعريف بالهوية الفلسطينية.
ظهر دور التراث الشعبي في حياة الفلسطينيين الاجتماعية والسياسية، بصورة متوازية مع ظهور الحركة النضالية، وكان للتراث دور مميز في كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني، بما يتناسب مع الوضع السياسي.
ففي زمن النكبة عام 1948 مثلاً، كان التراث الشعبي يعكس الحالة النضالية للشعب الفلسطيني، وظهر ذلك من خلال الأغاني – التي تشكل أحد أبرز عناصر التراث- في الكلمات والألحان التي تعبر عن الحنين للوطن والحزن والاشتياق للأرض وللأهل، وكانت مخيمات اللجوء تعكس العادات والتقاليد التي كانت سائدة في الوطن، قبل الشتات.
أما في العام 1967 فكانت كلمات الأغاني تتضمن تعبئة الجماهير ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفيها تعبير عن آمال الشعب الفلسطيني وطموحاته في تقرير المصير والحرية والاستقلال.
اتخذ الفلسطينيون من التراث الشعبي رموزاً لهم، للدلالة على هويتهم، ومصادر الرموز الفلسطينية كثيرة ومتنوعة، تكونت بفعل الأحداث التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ومن أبرز هذه الرموز المعالم الدينية والأثرية التي حباها الله لفلسطين، فكانت رمزاً مقدساً للعرب وللمسلمين وللمسيحيين، وعلى رأسها المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وكنيسة القيامة في مدينة القدس وكنيسة المهد في مدينة بيت لحم، وكنيسة البشارة في مدينة الناصرة، والمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، بالإضافة إلى مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين.
كما شكل القادة والشهداء الفلسطينيون والعرب الأبطال رموزاً نضالية، في وجه الاحتلال مثل صلاح الدين الأيوبي وعز الدين القسام، اللذين خلّفا فكراً ثورياً ونضالياً وطنياً باقياً، ورغم أن عز الدين القسام توفي منذ بداية الثورة، إلا انه كرس فكرة التنظيم الثوري في نهج المقاتلين من بعده وكانت له انتصارات عديدة.
ومن الرموز الوطنية أيضاً المدن والقرى الفلسطينية التي دمرها المحتل الإسرائيلي، والتي غير بعض أسمائها من العربية إلى العبرية، مثل قرية الجورة التي تقع شمال مدينة غزة، وقرية جمزو التي تقع إلى الغرب من مدينة اللد.
كما تعد الملابس الفلسطينية وبالأخص الأثواب المطرزة، رمزاً فلسطينياً يستدل به على الهوية الوطنية، ويستطيع الناظر إلى الثوب معرفة المنطقة أو القرية التي تنتمي لها المرأة التي ترتديه، وكذلك الحطة الفلسطينية البيضاء مع الخطوط السوداء فيها، والتي اشترك فيها الفلسطينيون مع غيرهم من العرب، تعد رمزاً نضالياً، ظهرت بكثافة في الانتفاضتين الأولى والثانية إذ ارتداها أطفال الحجارة وشبان المظاهرات وحتى المتضامنون الأجانب.
ويضاف إلى الرموز السابقة المأكولات الشعبية، واللهجة الفلسطينية، والصناعات التقليدية والأغاني الشعبية، التي تشكل رموزاً وطنية تدل على الهوية الوطنية الفلسطينية.
لهذا السبب قامت «إسرائيل» بالاعتداء على الهوية الوطنية الفلسطينية، وطالت التراث الشعبي والثقافي للشعب الفلسطيني المادي كأماكن العبادة والأماكن التاريخية، والتراث غير المادي كالحكايات الشعبية والقصص والرقصات الشعبية، وقامت بعمليات الطمس والتزوير والادعاء الكاذب والتشويه، بهدف محو الهوية والتاريخ الفلسطيني وتسهيل احتلال الأرض والشعب، فهي تعلم جيداً أن التراث هو مصدر قوة وصمود هذا الشعب. ولأن التراث الشعبي هو قلعة الصمود ولأن الثقافة هي حصنها المنيع ولأن الهوية هي صلبها وهيكلها، توجب على كل فلسطيني المحافظة على هذا الكنز الثمين والسلاح الفتاك وصونه وتطويره، بما يضمن أصالته ونقله إلى الأجيال القادمة وتسليحهم به تماماً، كما تنقل لهم فكرة النضال وتحرير الأرض والثورة والانتفاضة ورسم طريق العودة.
التاريخ: الثلاثاء20-10-2020
رقم العدد :1017