الملحق الثقافي: ناظم مهنا:
“الكذبةُ السَّافرة وحدها تملك الآن حريَّة قول الحقيقة”..ثيودور أدورنو
حاول منظّرو ما بعد الحداثة، خلق نظرية جديدة للثّقافة على أنقاض التّراث النقدي الكلاسيكي، ضمن دائرة النَّقد ونَقدِ النَّقد، وصبُّوا سهام نقدهم المركّزة على عصر الأنوار. وفي نظر هؤلاء المفكِّرين الجُدد، لم يعد ذاك النَّقد، الذي يزعم امتلاك الحقيقة كاملة، هو نقطة البداية والنهاية، ولا بدَّ من وضع حدٍّ لاستبداد العقل، وأوهام مركزية الإنسان والطبيعة البشرية.
ولكن، لماذا يوجِّهُ هؤلاء المفكِّرون ما بعد الحداثويين هجومهم على مركزية العقل، ومركزية الطبيعة الإنسانية، متمثلةً بعصر الأنوار والتيارات الإنسانية التي تمخَّضت عنه؟ أليس في هذا استبدادٌ جديد، وانتصار لكلِّ ما هو خارج الإنسان، وإعطاء بطولة مجانية للأشياء؟ ألم نلحظ كيف حلَّت السلعة محل العقل؟ ونحن اليوم نعيش عصر تأليه السّلعة؟.
المنظرون الجدد المتحمّسون، يقولون: «الثقافة اليوم تشرح كلَّ شيء» (كاترين بيلسي). إذ اللغة هي حجر الأساس المعرفي، ولا مكان للعاطفة والرغبات، ولا للمعرفة التي تعرف كلَّ شيء. بل كلُّ شيء يُجزَّأ، ويُفكَّك دون العناية بإعادة جمعه أو تركيبه! إنه يغدو متروكاً للفوضى، ودون النظر إلى السببية التي تربط بين أجزائه. فللشيء مراكز متعددة، لا مركزية واحدة، في حين ليس للإنسان لدى هؤلاء أيّ معنى، وهو دون الشيء أو دون السلعة التي ينتجها ويستهلكها، وهو دون اللغة التي أخذت منه البطولة والفاعلية.
الإنسان، فيما مضى من العقود والقرون، كان يحتاج إلى فهم المسائل والظواهر إلى الاتكاء على الثنائيّة المتقابلة، وتفهّم المسائل باستحضار أضدادها، ولعلَّ في هذا تبسيطاً يصل إلى حد الابتذال المعرفي.
اليوم لم تعد هذه الثنائية تحظى بالقَبول، والمنظرون الجدد بسبب خلفياتهم الفلسفية، والمكانة التي تحتلها في نفوسهم ووجدانهم الفلسفة اليونانية الهيرقليطسية، لا ينفون الصراع، لكن، الصراع لا يُحدَّد بطرفين بل هو لا متناهٍ. إنه يتشظَّى في اللغة والمخيال وفي الكلام المكتوب، ضمن طبقات أو ثنيات متراكمة، ومهمّة النَّقد الثقافي الجديد، أو القراءة الجديدة الكشف عن هذه الثنيات التي حيكَت بدهاء لاهوتي.
إنَّ الفضاء الذي يتحرَّك فيه الفكر ليس الواقع البتَّة، فالواقع غير حقيقي، وخلافاً للوضعية وما قبلها، ليس الواقع ما نعايشه ونختبره بالحواس، بل هو طبقات خفيّة، يتناوبها الحضور والغياب، اللامتناهي أو المتعدد. ونلاحظ أنَّ التلوينات المانويّة لا تنعدم لدى مفكرينا الجدد، والثنائيات التي يستخفون بها لا تلبث أن تُطلَّ برأسها بين الفينة والأخرى، ولا يجد فلاسفتنا حرجاً في ذلك، بل يمكن إخفاء ذلك بالحذلقة، وبمزيدٍ من التعمية والغموض.
تستعير «كاثرين بيلسي» من «جاك لاكان» مصطلح (الواقع الواقعي) لتعريف ما لا نعرفه، والواقع «لا يعني الحقيقة الواقعية التي هي ما نعرفه حقّاً، أي صورة العالم، التي تقدمها الثقافة لنا”.
الثقافة تحلُّ محل اللغة لدى بيلسي ورفاقها، في حين اللغة لدى هايدغر، هي التي تبرز عالم الأشياء، مظهرة للعيان كيانات وأشياء وألواناً وأصواتاً منفصلة… ويرى هايدغر أنَّ اللغة (بيت الكينونة)، ينهض من خلالها تاريخياً عالمُ أيِّ شعب من الشعوب.
“كريستوفر نورس” من المنظرين الأميركيين الجدد لفكر ما بعد الحداثة، إلا أن نورس يختلف عن رفاقه في إصراره على روح عصر الأنوار النقدي، وهو يلتقي في ذلك مع جاك دريدا، ورولان بارت، ويختلف مع باقي المفكرين العدميين أو التسويغيين، مثل بودريار، ودورتي، وفش، وفوكوياما، وتلامذتهم ومن لفَّ لفَّهم من مسوّقي الفكر العبثي، كما يصفهم نورس. ونقطة الانطلاق أو ذروة الاختلاف تدور حول الموقف من حرب الخليج الأولى.
من المعروف أن «بودريار» قبل حرب الخليج بأيام كتب في الغارديان مقالاً بعنوان «حرب الخليج لن تقع أبداً»، وهي مجرد شيء ملفَّق أفرزه زيف وسائل الإعلام وخطاب إعلام الحرب أو السيناريوهات المتخيّلة. ورأى بودريار – وأثبتت الوقائع اللاحقة خطأه – أن الحروب أصبحت مستحيلة إلا بوصفها ظاهرة خطابية، ولم تمضِ سوى أيام حتى شنَّت أميركا حربها النارية شديدة الوحشية على العراق بحجة تحرير الكويت، وأنكر بودريار حدوث الحرب وعدَّها خدعةً متلفزة.
يُفنّد كريستوفر نورس مثل هذه المقولات، وينقد خلفيتها الفكرية بكتابه الصادم: «نظرية لا نقدية». في هذا الكتاب جدل نخبوي بين مفكري ما بعد الحداثة، والتناقضات التي تطفو على السطح حول محتوى الفكر وحول الممارسة الفكرية والأخلاقية لمفكري ما بعد الحداثة. وفي الكتاب زخم من السلبية لمجمل مقولات ما بعد الحداثة، ويجردهم نورس من الخاصية النقدية، لأنهم يضعون أنفسهم في مواجهة نزعة التنوير التي يتضمّنها النقد بالضرورة.
يعتمد نورس على التفكيكية في نقد آليات الخطاب ما بعد الحداثي، ويبين كيف تتحول الوقائع، مع هؤلاء، إلى سخرية والحقيقة إلى ألعاب.
التاريخ: الثلاثاء8-12-2020
رقم العدد :1023