«أليس».. في مكتبة العجائب

 الملحق الثقافي: ثراء علي الرومي :

لم تكن حافلة عادية تلك التي ترسم على وجهي أعزّ ابتسامة منبعها ماضٍ جميل زاخرٍ بالذكريات. لا زالت خطوطها العريضة الزرقاء والرمادية محفورة في ذاكرتي. كيف لا وقد كانت بوابة كنزي المعرفي؟. لا شك أن من عاشوا معي تلك الحقبة من أواخر الثمانينيات، يتذكرون جيداً الوحدات الثقافية المتنقلة وهي تجوب الأرياف، ليقطف منها الكبار والصغار ثمار الفكر والأدب.
كنت أنتظر اليوم الخامس عشر من كل شهر بلهفةٍ، مترقبة قدوم تلك الحافلة لأصعد إليها وقد غدوت “أليس” أخرى مع فارقٍ بسيط هو أنني، كنت على أرض الواقع والفرح الذي حلّق بي بعيداً، حيث أحمل معي ما قرأته من كتبٍ استعرتها قبل أسبوعين لأغوص في رفوف المكتبة المتنقلة التي تحتويها الحافلة، وأقطف درر كتبٍ أخرى من أمهات الإبداع العربي والعالمي التي صقلت لغتي وأغنت تجربتي.

كان يحق لكلِّ رواد هذه المكتبة العجائبية المتنقلة، أن يستعيروا كتاباً واحداً أو اثنين في كلِ زيارةٍ لها إلى القرية، ولكنني حظيت باستثناءٍ إنساني من أمين تلك المكتبة الذي لا أذكر اسمه ولكن، أدين له بفضلٍ كبيرٍ إذ قدَّر نهمي للقراءة فوهبني حرية اختيار ما شئت من كتبٍ، حتى ولو بلغ عددها خمسة عشر كتاباً في كلِّ رحلة بين رفوف مكتبة العجائب.
لا زلت أذكر نبض أجمل فرحة كنت أعيشها وأنا أترجل من الحافلة بزهو الفاتحين، وبين يدي تلال الكتب لأسرع إلى المنزل وأفرد ثروتي المعرفية أمامي، لأتصفحها قبل القراءة وأشم رائحة الورق التي لا يضاهيها عبق.
الملفت أن هذا الاستثناء الإنساني في عدد الكتب المستعارة، قد رافقني حتى في سنوات حياتي الجامعية، وقد أدرك أمين مكتبة الآداب الأجنبية شغفي بالقراءة والتزامي بإعادة الكتب في موعدها، فكان لي هامش استعارة محبَّب أشعر بالامتنان حياله ما حييت.
ما أعاد تلك المشاهد إلى الذاكرة، هو زائري الصغير الذي استضافه أطفالي ليقضوا نهارهم معاً، وهو صديقهم على مقاعد الدراسة. إذ فوجئت بغوصه بين رفوف مكتبتي المتواضعة وهو ابن التاسعة، ليشارك ابني اهتمامات لطالما، جهدت في غرسها في وجدانه، ولدهشتي البالغة راح زائرنا الجميل يسألني عن أسماء المؤلفين لكتبٍ اخترتها له قبل اهتمامه بالكتب بحدِّ ذاتها، بل وراح يختار كتباً تفوق عمره مؤكداً أنه معتاد على قراءة الروايات، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أحيِّي أهله الذين زرعوا فيه هذا الشغف وتلك اللهفة التي عزَّ نظيرها، فلكم هو مبهجٌ للفؤادِ أن نجد بين أطفال هذا الجيل من يهتم بالكتاب وبرائحة الورق المحببة.
ثمَّة وصفٍ أطلقته على من هم أكبر منه سناً بقليل ويغريني تكراره: إنهم للأسف الشديد جيل النسخ واللصق. جيل الوجبات السريعة فكرياً وهضمياً.
قد يقول قائل إن ذلك ما أفرزته الحرب الجائرة على بلادنا، ولكنني أخال أنها مسألة اهتمامات وأولويات مهما تفاقمت المصاعب، والأمر يحتاج مجهوداً مجتمعياً لإعادة إحيائه.
لن أكون منفصلة عن الواقع بدعوتي إلى ظاهرة القراءة في زمن أصبحت فيه لقمة العيش عزيزة المنال، وباتت فيه أبسط متطلبات الحياة عبئاً مجهداً يستهلك الكثير من الوقت والصبر بين طوابير الخبز والغاز والمازوت، وبين انتظارٍ لرسالةٍ لن تأتي من بطاقةٍ أقل ما يمكن وصفها، أنها ليست اسماً على مسمّى.
في ظلِّ كلِّ هذه الظروف القاهرة، قد تبدو القراءة ترفاً يصعب الطموح إليه بالنسبة للكثيرين، ولكنني أصرُّ على كونها حاجة روحيَّة ملحَّة، فلطالما تمكنت كتب من إحداث تغييراتٍ في تركيبة شخصية أناس عرفتهم وشهدوا بذلك بأنفسهم، ولطالما كانت ملاذي الآمن الأكثر دفئاً. الأهم من هذا وذاك، أن من نعوِّل عليهم في حمل شعلة القراءة، لا تترتب عليهم الأعباء التي ذكرت وربما يقضون معظم نهارهم وكل لياليهم يعبثون بلوحةِ جوالٍ جلَّ ما يفعله، هو أنه يقدم لهم وجبة جاهزة من جمودٍ فكريٍّ وتعبٍ بصري، وما سواهما من مشاكل صحية قد تظهر عاجلاً أم آجلاً، ولست هنا في صدد الدعوة لمقاطعة وسائل التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت أمراً واقعاً لا مفر منه، بل يمكن لها – وهي السيف ذو الحدين – أن تكون رافداً قوياً للعملية المعرفية، ووسيلة تبادل وانتشار لما هو إيجابي في هذا المجال إن أحسن استخدامها.
يبقى السؤال: متى يدرك الأهل خطورة التسطح والتصدع الفكري الذي يجتاح حياة أطفالهم الذين هم لبناتُ بناء المستقبل؟..
كلنا يعلم علم اليقين، أن الجهل الأعمى كان أداة الحرب وشرارتها الأولى التي لم تُبقِ ولم تذر. أفلا نعتبر؟!..

التاريخ: الثلاثاء8-12-2020

رقم العدد :1023

 

آخر الأخبار
طرطوس.. تأمين مستلزمات الإنتاج والنهوض بالواقع الزراعي القنيطرة.. تأهيل كوادر "الشؤون الاجتماعية والعمل " بتقنيات الحاسوب رفضاً للتدخل الخارجي.. وقفة احتجاجية في صليب التركمان  "زراعة اللاذقية".. تفقد المناحل ومحصول القمح محطة تحويل عربين في الخدمة حمص: تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في حسياء "المالية" نحو إعادة هيكلية مديرياتها في المحافظات   شراكات صناعية على طاولة مباحثات سورية تركية لتطوير آفاق التعاون تعاون سوري ألماني في مجال الاتصالات وتقانة المعلومات خلال أيام.. "شام كاش" بالخدمة عبر كوى البريد عودة الحياة لصحنايا وأشرفيتها.. وإطلاق سراح دفعة ثالثة من الموقوفين  بمشاركة سوريا.. انطلاق أعمال مؤتمر أسبوع المياه العربي السابع في الأردن طرطوس.. إخماد حريق بالقرب من خزانات الشركة السورية للنفط أردوغان: لن نسمح بجر سوريا لصراع جديد السلطة الرابعة تستعيد دورها و"الثورة" تعود بروح جديدة تسجيل الطلاب المنقطعين في الجامعة الافتراضية حتى ٨ الجاري لنكن عوناً في استمرار نعمة المياه إعلان ترامب حول خفض الرسوم الجمركية على الصين.. تكتيك أم واقعية؟ تكريم كوادر مستشفى الجولان الوطني The Media line: حماية الأقليات أم ذريعة عسكرية".. إسرائيل تُعيد صياغة خطابها في سوريا