الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
هذا التعبير المجازي، ليس من تأليفي ولا هو لكاتبٍ حديث، بل هو لكاتب سوري عريق وأصيل من القرن الثاني الميلادي، إنه لوقيان السوري، أو لوقيانوس السميساطي، له محاورات وقصص ورسائل كثيرة، منها رسالة له بعنوان: كيف يجب أن يُكتَبَ التاريخ؟ وهي رسالة مدهشة بقوتها، وجدارتها بالديمومة حتى عصرنا هذا، يقول لوقيان في مطلع الرسالة: «إن جسد التاريخ كله ليس سوى سرد مطوّل».
لوقيان كاتب سوري ساخر، سَخِرَ من الديانات الوثنية وغير الوثنية، وسَخِرَ من الفلاسفة والشعراء والمعتقدات التي تندرج في منظومات خرافية أو أسطورية، إنه شديد الشبه بأبي العلاء المعري، حتى إن أحدهم ذهب إلى أن أبا العلاء هو نسخة القرن التاسع الميلادي للوقيان، كان لوقيان متشبّعاً بالثقافة اليونانية، ولكنه كان يصرُّ على سوريّته، ويقول في كثير من مواقفه الخطابية وسيرته حين يتهكم على نفسه بعلوٍّ ورفعة، يقول: «أنا السوري».
كان يرى نفسه أينما حلّ في غربته أنه السوري المترحل في ثقافات العالم، وكان كثير الأسفار، ويبدو أن هذا الانتساب أو الانتماء كان يعني له كثيراً، إنه يؤكد أنه ليس يونانياً ولو كانت لغته الثقافية وثقافته التعليمية يونانية، ويصرُّ الغربيون عن قصد أو غير قصد على يونانية الرجل على الرغم من سوريته الصريحة!.
كان كثير التنقل بين بلده سميساط وأنطاكيا وأثينا ومصر وبيروت ودمشق، ولم يكن ينتمي إلى أي ديانة وثنية أو توحيدية، تهكَّم على الأديان كلها، كما فعل بعده أبو العلاء المعري، له ثمانون مؤلفاً، منها محاورات الآلهة، ومحاورات الموتى، وأقاصيص كثيرة ساخرة يتهكَّم فيها على الخرافات والرذائل التي سادت ثقافة عصره، وقصته الشهيرة بعنوان «قصة حقيقية» رحلةٌ مدهشة إلى الفضاء في الحلم، تأثر بها الروائيون في الغرب، مثل: جونثان سويفت ورابلية وديدرو وفولتير، ولُقِّبَ لوقيان عند الغربيين بفولتير عصره.
اهتم لوقيان بالتاريخ ويُنسَب له كتاب صغير بعنوان: «تاريخ الآلهة السورية». شكك بعض الباحثين بنسبته إليه، إلا أن فيه نكهة أسلوب لوقيان، والأهم من ذلك نجد في هذا الكتاب الصغير منهجية لوقيان في كتابة التاريخ التي فصّلها في رسالته «كيف يجب أن نكتب التاريخ؟»، وطريقته قائمة على السمو بكرامة التاريخ عبر نشر الحقائق والوقائع بأسلوب تتحقق فيه المتعة والفائدة بدقة وبلا مبالغة، وبلا تلفيق أو كذب، وبعيداً عن الجنوح الخيالي… وبما أن رسالته هذه التي أرسلها إلى صديق له اسمه «فيليون»، ويبدو من اسمه أنه سوري أيضاً، يعبِّر فيها عن ضيقه من كثرة المؤرخين، واستسهال الكتابة في التاريخ، وتراكم الأخطاء والحماقات: «ما يجعل الصمت غير ممكن بين هذه الأصوات الصاخبة، وقبل أن تتفاقم الأمور، ويصفِّق الجمهور للأكاذيب، وتوضع المؤلفات في بلاطات الملوك، وتغدو حقائق يستحيل تغييرها».
لهذا كله يقدِّم لوقيانوس نصائحه للمؤرخين، التي نلخّص منها باختصار: أن تتوافر لدى المؤرخ صفتان أساسيتان، تستمد من أصالة المؤرخ نفسه، وهما: الذكاء السياسي، والوضوح في التعبير. الأولى موهبة طبيعية، أما الثانية فيمكن صقلها بالممارسة والعمل الدؤوب. ضرورة معرفة جغرافية الأحداث، ومعرفة التسلسل التاريخي، ورواية الأحداث كما جرت، وأن يضع المؤرخ نصب عينيه الذين سيقرؤونه في الآتي من الأيام.
كأي مبدع في التاريخ كان لوقيان يرنو إلى القارئ المستقبلي، وكان يرى أن على المؤرخ أن يكون حراً يصادق الحقيقة والصراحة، ويروي بوضوح ما وقع فعلاً دون تهيب أو وَجَلٍ، وأن يتمتَّع المؤرخ بالقدرة على التحليل والاستنتاج والتمييز، والشك بالمرويات، وإجراء المقارنات التي تنشّط الذكاء والتنبه لدى القارئ، كما يحبذ لوقيان أن يكتب المؤرخ مقدمة يشرح فيها ما سيقوله، بعد كل هذا يغدو السرد سهلاً طبيعياً «إذ إن جسد التاريخ كله ليس سوى سرد مطول، لذا يجب علينا أن نزيِّنه بجميع ما تمتاز به القصة، وأن يكون سيره موحداً متوازياً، منسجماً مع نفسه، دون رفع أو خفض، وأن يكون ذا وضوح جلي، يَهبُ لجميع قصصه شكلاً تاماً وكاملاً»، مع تأكيد لوقيان أن «الإيجاز ضروري دوماً، ولاسيّما حين يكون لدينا كثير مما نقوله، أعني أن نمر مسرعين بالأشياء البسيطة ذات الفائدة الضئيلة، كما نفيض بما يكفي حول الأمور الكبيرة».
نصائح لوقيان هذه للمؤرخين، التي يراعي فيها القارئ العام، هي ذروة الفكر التنويري النقدي العقلي، إذ العقل لديه، هو سيد كل شيء، في هذا النص العظيم نقد فني وأخلاقي للمؤرخين، وتأكيد أن التاريخ جسد فني سردي، أي إن التاريخ رواية، كما أن الرواية تاريخ بشكل أو بآخر! وهذه شهادة متقدمة من فيلسوفٍ وأديب كبير، يخصّنا جداً بالانتماء لهذه الأرض، وهو رأي متقدم وخلاصة سبّاقة لأحدث ما يقوله النقاد الكبار في العالم اليوم عن علاقة الرواية بالتاريخ.
وإذا كان كتَّابنا المعاصرون ينالون الجوائز المالية على الهذيان، وعلى الضحالة التي يكتبونها، إذا ما قيست بكتابة لوقيان، فالجائزة الأعظم التي نمنحها لأنفسنا وللوقيان، هي أن نقرأه جيداً نحن السوريين على الأقل. والتحية كل التحية إلى الراحل الكبير «سعد صائب» الذي ترجم بعض أعمال لوقيان وعرّفنا على هذا الفيلسوف الخالد.
التاريخ: الثلاثاء15-12-2020
رقم العدد :1024